للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ولما كان من أفضل الجهاد قول الحق مع شدة المعارض مثل: أن تتكلم به عند مَنْ تخاف سطوته وأذاه، كان للرسل -صلوات الله عليهم وسلامه- من ذلك الحظ الأوفر، وكان لنبينا -صلوات الله وسلامه عليه- من ذلك أكمل الجهاد وأتمه، ولما كان جهاد أعداء الله في الخارج فرعًا على جهاد العبد نفسه في ذات الله، كما قال النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-: الجهاد ١٣:١٧ ((المجاهد مَنْ جاهد نفسه في طاعة الله، والمهاجر مَنْ هجر ما نهى الله عنه)).

ولهذا كان جهاد النفس مقدما على جهاد العدو في الخارج وأصلًا له، فإنه ما لم يجاهد نفسه أولًا لتفعل ما أُمرت به، وتترك ما نهيت عنه، ويحاربها في الله، لم يمكنه جهاد عدوه في الخارج، فكيف يمكنه جهاد عدوه والانتصاف منه وعدوه الذي بين جنبيه قاهر له، متسلط عليه، لم يجاهده ولم يحاربه في الله، بل لا يمكنه الخروج إلى عدوه حتى يجاهد نفسه على الخروج، فهذان عدوان قد امتحنا العبد بجهادهما، وبينهما عدو ثالث لا يمكنه جهادهما إلا بجهاده، وهو واقف بينهما يثبط العبد عن جهادهما ويخذله ويرجف به، ولا يزال يُخيل له ما في جهادهما من المشاق، وترك الحظوظ، وفوت اللذات والشهوات، ولا يمكنه أن يجاهد ذينك العدوين إلا بجهاده، فكان جهاده هو الأصل لجهادهما، وهو الشيطان.

قال تعالى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا} (فاطر: من الآية: ٦) والأمر باتخاذه عدوًا تنبيه على استفراغ الوسع في محاربته ومجاهدته، كأنه عدو لا يفتر، ولا يقصر على محاربة العبد على عدد الأنفاس، فهذه ثلاثة أعداء أُمِرَ العبد بمحاربته وجهادها، وقد بُلي بمحاربتها في هذه الدار، وسُلطت عليه امتحانًا من الله له وابتلاءً، فأعطى الله العبد مددًا وعُدة وأعوانًا وسلاحًا لهذا الجهاد، وأعطى أعداءه مددًا وعدة وأعوانًا وسلاحًا، وبلى أحد الفريقين بالآخر، وجعل بعضهم

<<  <   >  >>