فأما عن الأول -ألا وهو وضوح المسئولية في وعيه- فنحن نعلم أنه لكي تستغرق قضية ما إنسانًا ما استغراقَ إيمانٍ لا استغراق بحث، فإنها لا بد أن تكون قد بلغت من الوضوح والإسفار في تفكير صاحبها وشعوره المدى الذي يقهر كل غموض، ويتخطى كل تساهل والقضية التي استغرقت عمر بن عبد العزيز -رحمه الله تعالى- كانت من هذا الطراز، فهي لا تستغرقه استغراق باحثٍ يحاول التأكد من صحتها وصدقها، بل استغراق مؤمن مفعم باليقين.
فلننظرِ الآن مظاهر وضوحها إليه، وإذا كانت كلماته وخطبه -رحمه الله- إنما تعبر تعبيرًا مطلقًا عن حقيقة اتجاهاته ومقاصده، فإنها أيضًا كفيلة بإعطائنا صورة هذا الوضوح، ولنبدأ مثلًا معه بخطبة من الخطب؛ لنعرف كيف أن المسئولية الملقاة على عاتق أمير المؤمنين الخليفة الزاهد الراشد عمر بن عبد العزيز -رحمه الله -تبارك وتعالى- كانت في غاية الوضوح.
يقول -رحمه الله-: "لقد سن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- وخلفاؤه من بعده سننًا؛ الأخذ بها اعتصام بكتاب الله وقوة لدين الله، ليس لأحد تبديلها ولا تغييرها، ولا الركون لأمر خالفها؛ من اهتدى بها فهو المهتدي، ومن استنصر بها فهو المنصور، ومن تركها واتبع غير سبيل المؤمنين ولاه ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصيرًا، أيها الناس إنه ليس بعد نبيكم نبي، وليس بعد الكتاب الذي أنزل عليه كتاب؛ فما أحل الله على لسان نبيه فهو حلال إلى يوم القيامة، وما حرم الله على لسان نبيه -صلى الله عليه وآله وسلم- فهو حرام إلى يوم القيامة، ألا وإني لست بقاض، وإنما أنا مُنَفِّذ، ولست بمبتدع إنما أنا متبع، ولست بخيركم إنما أنا رجل منكم، غير أني أثقلكم حملًا".