وهذه كلمات جليلة من هذا العالم الجليل تبين موقفه -رحمه الله تبارك وتعالى- من الاعتقاد الصحيح الذي كان عليه، وهذا الاعتقاد -كما سأذكر فيما بعد- كان متغيرًا عند كثير من الفرق، وقد نال الإمام أحمد أذًى بسبب تمسكه بعقيدة السلف الصالح -كما سيأتي بيان ذلك -إن شاء الله تعالى- بعد قليل وذلك في النقطة التالية.
جـ- المحنة التي جرت له رضي الله تعالى عنه قبل أن أذكر هذه المحنة:
أود أن أذكر بين يدي هذه المحنة كلمات قليلات للإمام الذهبي -رحمه الله- قال فيها: كان الناس أمة واحدة، ودينهم قائمًا في خلافة أبي بكر وعمر، فلما استشهد قفل باب الفتنة عمر -رضي الله عنه- وانكسر الباب، قام رءوس الشر على الشهيد عثمان حتى ذُبِح صبرًا، وتفرقت الكلمة، وتمت وقعة الجمل، ثم وقعة صفين، فظهرت الخوارج، وكفرت سادة الصحابة، ثم ظهرت الروافض والنواصب، وفي آخر زمن الصحابة ظهرت القدرية ثم ظهرت المعتزلة بالبصرة، والجهمية المجسمة بخراسان في أثناء عصر التابعين مع ظهور السنة وأهلها إلى بعد المائتين، فظهر المأمون الخليفة وكان ذكيًّا متكلمًا، له نظر في المعقول، فاستجلب كتب الأوائل، وعرب حكمة اليونان، وقام في ذلك وقعد، وخبأ ووضع، ورفعت الجهمية والمعتزلة رءوسها، بل والشيعة، فإنهم كانوا كذلك، وآل به الحال -أعني بالمأمون- إلى أن حمل الأمة على القول بخلق القرآن، وامتحن العلماء فلم يُمْهَل، وهلك لعامه وخلى بعده شرًّا وبلاءً في الدين، فإن الأمة ما زالت على أن القرآن العظيم كلام الله تعالى ووحيه وتنزيله لا يعرفون غير ذلك، حتى نبغ لهم القول بأن كلام الله مخلوق مجعول، وأنه إنما يضاف إلى الله تعالى إضافة تشريف، كبيت الله، وناقة الله، فأنكر ذلك العلماء، ولم تكن الجهمية يظهرون في دولة المهدي الرشيد والأمين، فلما ولي المأمون كان منهم، وأظهر المقالة، ولهذا كان المأمون هو أول من امتحن الناس في مسألة القرآن الكريم.