للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَحْمَدَ، ثنا زَاهِرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْفَيْضِ بْنِ صَقْرٍ ⦗٨١⦘ الْحِمْيَرِيُّ الشِّيرَازِيُّ، بِهَا إمْلَاءً مِنْ أَصْلِهِ , ثنا مَنْصُورُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الثَّعْلَبِيُّ بِمِصْرَ , ثنا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ الْحَبَّالِ الْحِمْيَرِيُّ عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كَانَ مُحَمَّدُ بْنُ إِدْرِيسَ الشَّافِعِيُّ رَجُلًا شَرِيفًا، وَكَانَ يَطْلُبُ اللُّغَةَ وَالْعَرَبِيَّةَ وَالْفَصَاحَةَ وَالشَّعَرَ فِي صِغَرِهِ، وَكَانَ كَثِيرًا مَا يَخْرُجُ إِلَى الْبَدْوِ وَيَحْمِلُ مَا فِيهِ مِنَ الْأَدَبِ، فَبَيْنَمَا هُوَ ذَاتَ يَوْمٍ فِي حَيٍّ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ إِذْ جَاءَ إِلَيْهِ رَجُلٌ بَدَوِيٌّ، فَقَالَ لَهُ: مَا تَقُولُ فِي امْرَأَةٍ تَحِيضُ يَوْمًا، وَتَطْهُرُ يَوْمًا؟ فَقَالَ: «لَا أَدْرِي». فَقَالَ لَهُ: يَا ابْنَ أَخِي: الْفَضِيلَةُ أَوْلَى بِكَ مِنَ النَّافِلَةِ، فَقَالَ لَهُ: «إِنَّمَا أُرِيدُ هَذَا لِذَاكَ، وَعَلَيْهِ قَدْ عَزَمْتُ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ وَبِهِ أَسْتَعِينُ»، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، وَكَانَ مَالِكُ صَدُوقًا فِي حَدِيثِهِ، صَادِقًا فِي مَجْلِسِهِ وَحِيدًا فِي جُلُوسِهِ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ، وَارْتَفَعَ عَلَى أَصْحَابِهِ، فَنَهَرَهُ مَالِكٌ، فَوَجَدَهُ مُوَقَّرًا فِي الْأَدَبِ، فَرَفَعَهُ عَلَى أَصْحَابِهِ، وَقَدَمَهُ عَلَيْهِمْ، وَقَرَّبَهُ مِنْ نَفْسِهِ، فَلَمْ يَزَلْ مَعَ مَالِكٍ إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الْيَمَنِ، وَقَدْ خَرَجَ بِهَا الْخَارِجِيُّ عَلَى هَارُونَ الرَّشِيدِ، وَطَعَنَ الشَّافِعِيُّ عَلَيْهِ، وَأَعْرِضْ عَمَّنْ سَاعَدَهُ، وَرَفَعَ مَنْ قَعَدَ عَنْهُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ الْخَارِجِيَّ مَا يَقُولُ فِيهِ فَبَعَثَ إِلَيْهِ، فَأَحْضَرَهُ عِنْدَهُ، وَهَمَّ بِقَتْلِهِ، فَلَمَّا سَمِعَ كَلَامَهُ، وَتَبَيَّنَ لَهُ شَرَفَهُ، وَفَضْلُهُ وَعِفَّتُهُ عَفَا عَنْهُ، وَعَرَضَ عَلَيْهِ قَضَاءَ الْيَمَنِ، فَامْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ أَشْخَصَ هَارُونُ جَيْشَهُ إِلَى ذَلِكَ الْخَارِجِيِّ، فَقَبَضَ عَلَيْهِ وَحُمِلَ إِلَى بِسَاطِ السُّلْطَانِ، وَحُمِلَ مَعَهُ الشَّافِعِيُّ، وَأُحْضِرَا جَمِيعًا بَيْنَ يَدَيِ الرَّشِيدِ فَأَمَرَ بِقَتْلِهِمَا، فَقَالَ لَهُ الشَّافِعِيُّ: " يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ: إِنْ رَأَيْتَ أَنْ تَسْمَعَ كَلَامِي، وَتَجْعَلُ عُقُوبَتَكَ مِنْ وَرَاءِ لِسَانِي، ثُمَّ تَضُمَّنِي بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى مَا يَلِيقُ لِي مِنَ الشِّدَّةِ أَوِ الرَّخَاءِ "، فَقَالَ لَهُ: هَاتِ. فَبَيَّنَ لَهُ الْقِصَّةَ وَعَرَّفَهُ شَرَفَهُ وَذَكَرَ لَهُ كَلَامًا اسْتَحْسَنَهُ هَارُونُ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُعِيدَهُ عَلَيْهِ , فَأَعَادَ تِلْكَ الْمَعَانِي بِأَلْفَاظٍ أَعْذَبَ مِنْهَا. فَقَالَ لَهُ هَارُونُ: كَثَّرَ اللَّهُ فِي أَهْلِ بَيْتِي مِثْلَكَ، وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ حَاضِرًا، فَلَمْ يَقْصُرْ وَخَلَّى لَهُ السَّبِيلَ، وَسَأَلَهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، فَنَزَلَ عَلَيْهِ أَيَّامًا ثُمَّ سَأَلَهُ الشَّافِعِيُّ أَنْ يُمَكِّنَهُ مِنْ كُتُبِهِ، وَكُتُبِ أَبِي حَنِيفَةَ، فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ ثَلَاثَ لَيَالٍ وَكَانَ الشَّافِعِيُّ قَدِ اسْتَبْعَدَ الْوَرَّاقِينَ فَكَتَبُوا لَهُ مِنْهَا مَا أَرَادَ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الشَّامِ فَأَقَامَ بِهَا مُدَّةً يَنْقُضُ ⦗٨٢⦘ أَقَاوِيلَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَيَرُدُّ عَلَيْهِ حَتَّى دَوَّنَ كَلَامَهُ، ثُمَّ اسْتَخَارَ فِي الرَّدِّ عَلَى مَالِكٍ فَأُرِيَ ذَلِكَ فِي الْمَنَامِ، فَرَدَّ عَلَيْهِ خَمْسَةَ أَجْزَاءٍ مِنَ الْكَلَامِ - أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ - ثُمَّ خَرَجَ إِلَى مِصْرَ وَالدَّارُ لِمَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ، يَحْكُمُونَ فِيهِ، وَيَسْتَسْقُونَ بِمَوْطئِهِ فَلَمَّا عَايَنُوهُ فَرِحُوا بِهِ، فَلَمَّا خَالَفَهُمْ، وَثَبُوا عَلَيْهِ، وَنالُوا مِنْهُ فَبَلَغَ ذَلِكَ سُلْطَانَهُمْ، فَجَمَعَهُمْ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَلَمَّا سَمِعَ كَلَامَهُ، وَتَبَيَّنَ لَهُ فَضْلَهُ عَلَيْهِمْ قَدَّمَهُ عَلَيْهِمْ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَقْعُدَ فِي الْجَامِعِ، وَأَمَرَ الْحَاجِبَ أَنْ لَا يَحْجُبُهُ أَيَّ وَقْتٍ جَاءَ. فَلَمْ يَزَلْ أَمْرُهُ يَعْلُو، وَأَصْحَابُهُ يَتَزَايَدُونَ إِلَى أَنْ وَرَدَتْ مَسْأَلَةٌ مِنْ هَارُونَ الرَّشِيدِ يَدْعُو النَّاسَ إِلَيْهَا وَقَدِ اسْتَكْتَمَهَا الْفُقَهَاءَ، فَأَجَابُوهُ إِلَى ذَلِكَ وَقَبِلُوهَا مِنْهُ طَوْعًا، وَمِنْهُمْ كَرْهًا فَجِيءَ بِالْمَسْأَلَةِ إِلَى الشَّافِعِيِّ فَلَمَّا نَظَرَ فِيهَا قَالَ: «غَفَلَ وَاللَّهِ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَنِ الْحَقِّ، وَأَخْطَأَ الْمَسِيرَ، عَلَيْهِ بِهَذَا وَحَقُّ اللَّهِ عَلَيْنَا أَوْجَبُ وَأَعْظَمُ مِنْ حَقِّ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَهَذَا خِلَافُ مَا كَانَ عَلَيْهِ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخِلَافُ مَا اعْتَقَدَتْهُ الْأَئِمَّةُ وَالْخَلَفُ». فَكَتَبَ بِذَلِكَ إِلَى هَارُونَ فَكَتَبَ فِي حَمْلِهِ مُقَيَّدًا فَحُمِلَ حَتَّى أَحْضُرَ فِي دَارِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، فَأُجْلِسَ فِي بَعْضِ الْحُجَرِ ثُمَّ دَخَلَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ وَبِشْرٌ الْمَرِيسِيُّ جَمِيعًا، فَقَالَ لَهُمَا هَارُونُ الرَّشِيدُ: الْقُرَشِيُّ الَّذِي خَالَفَنَا فِي مَسْأَلَتِنَا قَدْ أُحْضِرَ فِي دَارِنَا مُقَيَّدًا، فَمَا الَّذِي تَقُولَانِ فِي أَمْرِهِ، فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَقَدْ بَلَغَنِي أَيْضًا أَنَّهُ قَدْ خَالَفَ صَاحِبَهُ وَقَدْ رَدَّ عَلَيْهِ، وَعَلَى صَاحِبِي أَيْضًا، وَجَعَلَ لِنَفْسِهِ مَقَالَةً يَدْعُو النَّاسَ إِلَيْهَا، وَيتَشَبَّهُ بِالْأَئِمَّةِ، فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تُحْضِرَهُ حَتَّى نَبْلُوَ خَبَرَهُ وَنَقْطَعَ حُجَّتَهُ. ثُمَّ تُضَاعَفُ عَلَيْهِ عُقُوبَةُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ. فَدَعَا بِهِ بِقَيْدِهِ، فَأُحْضِرَ بَيْنَ يَدَيْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ، وَبَقِيَ قَائِمًا طَوِيلًا لَا يؤَذَنُ لَهُ بِالْجُلُوسِ، وَأمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ مُقْبِلٌ عَلَيْهِمَا دُونَهُ، ثُمَّ أَوْمَأَ إِلَيْهِ، فَجَلَسَ بَيْنَ النَّاسِ، فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: هَاتِ مَسْأَلَةً يَا شَافِعِيُّ نَتَكَلَّمُ عَلَيْهَا فَقَالَ لَهُ الشَّافِعِيُّ: «سَلُونِي عَمَّا أَحْبَبْتُمْ»، فَتَجَرَّدَ بِشْرٌ، وَقَالَ لَهُ: لَوْلَا أَنَّكَ فِي مَجْلِسِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ وَطَاعَتُهُ فَرْضٌ، لَنُنْزِلَنَّ بِكَ مَا تَسْتَحِقُّهُ، فَلَيْسَ أَنْتَ فِي كَنَفِ الْعُمُرِ وَلَا أَنْتَ فِي ذِمَّةِ الْعِلْمِ فَيَلِيقُ بِكَ هَذَا. فَقَالَ لَهُ الشَّافِعِيُّ: «عَضَّ مَا أَنْتَ». وَذَا بِلُغَةُ أَهْلِ الْيَمَنِ ⦗٨٣⦘ فَأَنْشَأَ يَقُولُ:

[البحر المتقارب]

أَهَابُكَ يَا عَمْرُو مَا هِبْتَنِي ... وَخَافَ بُشْرَاكَ إِذْ هِبْتَنِي

وَتَزْعُمُ أُمِّي عَنْ أَبِيهِ ... مِنَ اوْلَادِ حَامَ بِهَا عِبْتَنِي

فَأَجَابَهُ الشَّافِعِيُّ وَهُوَ يَقُولُ: «

[البحر الوافر]

وَمَنْ هَابَ الرِّجَالَ تَهَيَّبُوهُ ... وَمَنْ حَقَرَ الرِّجَالَ فَلَنْ يَهَابَا

وَمَنْ قَضَتِ الرِّجَالُ لَهُ حُقُوقًا ... وَلَمْ يَعْصَ الرِّجَالَ فَمَا أَصَابَا»

فَأَجَابَهُ بِشْرٌ، وَهُوَ يَقُولُ:

[البحر الرجز]

هَذَا أَوَانُ الْحَرْبِ فَاشْتَدِّي زِيَمْ

فَأَجَابَهُ الشَّافِعِيُّ، وَهُوَ يَقُولُ: «

[البحر الوافر]

سَيعْلَمُ مَا يُرِيدُ إِذَا الْتَقَيْنَا ... بِشَطِّ الرَّابِ أَيَّ فَتًى أَكُونُ»

فَقَالَ بِشْرٌ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ دَعْنِي وَإِيَّاهُ. فَقَالَ لَهُ هَارُونُ: شَأْنَكَ وَإِيَّاهُ. فَقَالَ لَهُ بِشْرٌ: أَخْبِرْنِي مَا الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَاحِدٌ. فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: «يَا بِشْرُ مَا تُدْرِكُ مِنْ لِسَانِ الْخَوَاصِّ فَأُكَلِّمَكَ عَلَى لِسَانِهِمْ إِلَّا أَنَّهُ لَا بُدَّ لِي أَنْ أُجِيبَكَ عَلَى مِقْدَارِكَ مِنْ حَيْثُ أَنْتَ؛ الدَّلِيلُ عَلَيْهِ بِهِ، وَمِنْهُ، وَإِلَيْهِ، وَاخْتِلَافُ الْأَصْوَاتِ فِي الْمُصَوِّتِ إِذَا كَانَ الْمُحَرِّكُ وَاحِدًا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ وَاحِدٌ، وَعَدَمُ الضِّدِّ فِي الْكَمَالِ عَلَى الدَّوَامِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ وَاحِدٌ، وَأَرْبَعُ نَيِّرَاتٍ مُخْتَلِفَاتٍ فِي جَسَدٍ وَاحِدٍ مُتَّفِقَاتٌ عَلَى تَرْتِيبِهِ فِي اسْتِفَاضَةِ الْهَيْكَلِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَاحِدٌ، وَأَرْبَعُ طَبَائِعَ مُخْتَلِفَاتٍ فِي الْخَافِقَيْنِ أَضْدَادٌ غَيْرُ أَشْكَالٍ مَؤَلَّفَاتٍ عَلَى إِصْلَاحِ الْأَحْوَالِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَاحِدٌ، وَفِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ كُلُّ ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَاحِدُ لَا شَرِيكَ لَهُ». فَقَالَ بِشْرٌ: وَمَا الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ؟ قَالَ: " الْقُرْآنُ الْمَنْزَلُ، وَإِجْمَاعُ النَّاسِ عَلَيْهِ، وَالْآيَاتُ الَّتِي لَا تَلِيقُ بِأَحَدٍ، وَتَقْدِيرُ الْمَعْلُومِ فِي كَوْنِ الْإِيمَانِ بِدَلِيلٍ وَاضِحٍ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ لَا بَعْدَهُ مُرْسَلٌ يَعْزِلُهُ، وامْتِحَانُكَ إِيَّايَ بِهَذَيْنِ السُّؤَالَيْنِ وَقَصْدُكَ إِيَّايَ بِهِمَا دُونَ فُنُونِ الْعُلُومِ دَلِيلٌ ⦗٨٤⦘ عَلَى أَنَّكَ حَائِرٌ فِي الدِّينِ، تَائِهٌ فِي اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَلَوْ وَسِعَنِي السُّكُوتُ عَنْ جَوَابِهِ لَاخْتَرْتُهُ. وَإِنْ قُلْتَ آمِرًا لِي: لَا تُشَمِّرْ مِنْ سُؤَالَيْكَ هَذَيْنِ لَقُلْتُ: بَعِيدٌ مِنْ بَرَكَاتِ الْيَقِينِ، وَكَيْفَ قَصُرَتْ يَدِي عَنْكَ، لَقَدْ وَصَلَ لِسَانِي إِلَيْكَ ". فَقَالَ لَهُ بِشْرٌ: ادَّعَيْتَ الْإِجْمَاعَ، فَهَلْ تَعْرِفُ شَيْئًا أَجْمَعَ النَّاسُ عَلَيْهِ؟ قَالَ: «نَعَمْ، أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ هَذَا الْحَاضِرَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ فَمَنْ خَالَفَهُ قُتِلَ». فَضَحِكَ هَارُونُ وَأَمَرَ بِأَخْذِ الْقَيْدِ عَنْ رِجْلَيْهِ. قَالَ: ثُمَّ انْبَسَطَ الشَّافِعِيُّ فِي الْكَلَامِ فَتَكَلَّمَ بِكَلَامٍ حَسَنٍ، فَأُعْجِبَ بِهِ الرَّشِيدُ، وَقَرَّبَهُ مِنْ مَجْلِسِهِ، وَرَفَعَهُ عَلَيْهِمَا. قَالَ: ثُمَّ غَاصَا فِي اللُّغَةِ - وَكَانَ بِشْرٌ مُدِلًّا بِهَا - حَتَّى خَرَجَا إِلَى لُغَةِ أَهْلِ الْيَمَنِ، فَانْقَطَعَ بِشْرٌ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ لِبَشَرٍ: يَا هَذَا إِنَّ هَذَا رَجُلٌ قُرَشِيٌّ، وَاللُّغَةُ مِنْ نُسُكِهِ، وَأَنْتَ تَتَكَلَّفُهَا مِنْ غَيْرِ طَبْعٍ، فَدَعَوْنِي وَمَالِكًا وَدَعُوا مَالِكًا مَعِي. قَالَ الشَّافِعِيُّ: «إِنْ كُنْتَ أَبَا ثَوْرٍ يَعْقِرُ الْحَرْفَ». فَجَرَى بَيْنَهُمَا عَشْرُ مَسَائِلَ انْقَطَعَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فِي خَمْسٍ مِنْهَا حَتَّى أَمَرَ هَارُونُ الرَّشِيدُ بَجَزِّ رِجْلِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ، فَأَرَادَ الشَّافِعِيُّ أَنْ يُكَافِئَهُ لِمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِ مِنَ الْيَدِ، فَقَالَ: «يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ يَمَنِيًّا هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ»، وَجَعَلَ يَمْدَحُهُ بَيْنَ يَدَيْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَيُفَضِّلُهُ، فَعَلِمَ هَارُونُ الرَّشِيدُ مَا يُرِيدُ الشَّافِعِيُّ بِذَلِكَ، فَخَلَعَ عَلَيْهِمَا، وَحَمَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى مُهْرِي قِرْطَاسٌ يُرِيدُ بِذَلِكَ مَرْضَاةَ الشَّافِعِيِّ، وَخَلَعَ عَلَى الشَّافِعِيِّ خَاصَّةً، وَأَمَرَ لَهُ بِخَمْسِينَ أَلْفِ دِرْهَمٍ. فَانْصَرَفَ إِلَى الْبَيْتِ، وَلَيْسَ مَعَهُ شَيْءٌ، قَدْ تَصَدَّقَ بِجَمِيعِ ذَلِكَ وَوَصَلَ بِهِ النَّاسَ، فَقَالَ لَهُ هَارُونُ الرَّشِيدُ: أَنَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْتَ الْقُدْوَةُ، فَلَا يَدْخُلْ عَلَيَّ أَحَدٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ قَبْلَكَ، فَأَنْشَأَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ يَقُولُ:

[البحر الرجز]

أَخَذْتُ نَارًا بِيَدِي ... أَشْعَلْتُهَا فِي كَبِدِي

فَقُلْتُ: وَيْحِي سَيِّدِي ... قَتَلْتُ نَفْسِي بِيَدِي

<<  <  ج: ص:  >  >>