حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَحْمَدَ، ثَنَا أَبُو عَمْرٍو عُثْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْدَّقَّاقُ وَالْمَعْرُوفُ بِابْنِ السَّمَّاكِ الْبَغْدَادِيُّ ثنا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الْمَدِينِيُّ، حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ مُوسَى النَّجَّارُ قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْأُمَوِيُّ ثنا ⦗٨٥⦘ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْبَلَوِيِّ، قَالَ: لَمَّا جِيءَ بِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الشَّافِعِيِّ إِلَى الْعِرَاقِ أُدْخِلَ إِلَيْهَا لَيْلًا عَلَى بَغْلٍ قَتَبٍ، وَعَلَيْهِ طَيْلُسَانٌ مُطْبَقٌ، وَفِي رِجْلَيْهِ حَدِيدٌ، وَذَاكَ أَنَّهُ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ، وَأَصْبَحَ النَّاسُ فِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ لِعَشْرٍ خَلَوْنَ مِنْ شَعْبَانَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ وَمِائَةٍ، وَكَانَ قَدِ اعْتَوَرَ عَلَى هَارُونَ الرَّشِيدِ أَبُو يُوسُفَ الْقَاضِي، وَكَانَ قَاضِي الْقُضَاةِ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ عَلَى الْمَظَالِمِ، فَكَانَ الرَّشِيدُ يَصْدُرُ عَنْ رَأْيِهِمَا، وَيَتَفَقَّهُ بِقَوْلِهِمَا فَسَبَقَا فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ إِلَى الرَّشِيدِ، فَأَخْبَرَاهُ بِمَكَانِ الشَّافِعِيِّ وَانْبَسَطَا جَمِيعًا فِي الْكَلَامِ فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي مَكَّنَ لَكَ فِي الْبِلَادِ، وَمَلَّكَكَ رِقَابَ الْعِبَادِ مِنْ كُلِّ بَاغٍ وَمُعَانِدٍ إِلَى يَوْمِ الْمَعَادِ، لَا زِلْتَ مَسْمُوعًا لَكَ وَمُطَاعًا فَقَدْ عَلَتِ الدَّعْوَةُ، وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ، وَهُمْ كَارِهُونَ، وَإِنَّ جَمَاعَةً مِنْ أَصْحَابِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ اجْتَمَعَتْ، وَهُمْ مُتَفَرِّقُونَ قَدْ أَتَاكَ مَنْ يَنُوبُ عَنِ الْجَمِيعِ، وَهُوُ عَلَى الْبَابِ، يُقَالُ لَهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِدْرِيسَ بْنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ شَافِعِ بْنِ السَّائِبِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عَبْدِ يَزِيدَ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، يَزْعُمُ أَنَّهُ أَحَقُّ بِهَذَا الْأَمْرِ مِنْكَ، وَحَاشَ لِلَّهِ، ثُمَّ إِنَّهُ يَدَّعِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَبْلُغْهُ سِنُّهُ، وَلَا يَشْهَدُ لَهُ بِذَلِكَ قَدْرُهُ، وَلَهُ لِسَانٌ وَمَنْطِقٌ وَرَوَاءٌ، وَسَيُحَلِّيكَ بِلِسَانِهِ، وَأَنَا خَائِفٌ، كَفَاكَ اللَّهُ مُهِمَّاتِكَ، وَأَقَالَكَ عَثَرَاتِكَ. ثُمَّ أَمْسَكَ. فَأَقْبَلَ الرَّشِيدُ عَلَى أَبِي يُوسُفَ، فَقَالَ: يَا يَعْقُوبُ. قَالَ: لَبَّيْكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ: أَنْكَرْتَ مِنْ مَقَالَةِ مُحَمَّدٍ شَيْئًا؟ فَقَالَ لَهُ أَبُو يُوسُفَ: مُحَمَّدٌ صَادِقٌ فِيمَا قَالَهُ وَالرَّجُلُ كَمَا خُلِقَ. فَقَالَ الرَّشِيدُ: لَا خَبَرَ بَعْدَ شَاهِدَيْنِ، وَلَا إِقْرَارَ أَبْلَغُ مِنَ الْمِحْنَةِ، وَكَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يَشْهَدَ بِشَهَادَةٍ يُخْفِيهَا عَنْ خَصْمِهِ. عَلَى رِسْلِكُمَا، لَا تَبْرَحَا. ثُمَّ أَمَرَ بِالشَّافِعِيِّ فَأُدْخِلَ فَوُضِعَ بَيْنَ يَدَيْهِ الْحَدِيدُ الَّذِي كَانَ فِي رِجْلَيْهِ، فَلَمَّا اسْتَقَرَّ بِهِ الْمَجْلِسُ، وَرَمَى الْقَوْمُ إِلَيْهِ بِأَبْصَارِهِمْ رَمَى الشَّافِعِيُّ بِطَرْفِهِ نَحْوَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَشَارَ بِكَفَّةِ كِتَابِهِ مُسَلِّمًا، فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، فَقَالَ لَهُ الرَّشِيدُ: وَعَلَيْكَ السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، بَدَأْتَ بِسُنَّةٍ لَمْ تُؤْمَرْ بِإِقَامَتِهَا، وَزِدْنَا فَرِيضَةٌ قَامَتْ بِذَاتِهَا، وَمِنْ أَعْجَبِ الْعَجَبِ أَنَّكَ تَكَلَّمْتَ فِي مَجْلِسِي بِغَيْرِ أَمْرِي. فَقَالَ لَهُ الشَّافِعِيُّ: «يَا أَمِيرَ ⦗٨٦⦘ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَعَدَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيْمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا، وَهُوَ الَّذِي إِذَا وَعَدَ وَفَى، فَقَدْ مَكَّنَنِي فِي أَرْضِهِ، وَأَمَّنَنِي بَعْدَ خَوْفِي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ»، فَقَالَ لَهُ الرَّشِيدُ: أَجَلْ قَدْ أَمَّنَكَ اللَّهُ إِنْ أَمَّنْتُكَ. فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: «فَقَدْ حُدِّثْتُ أَنَّكَ لَا تُقْتَلُ قَوْمَكَ صَبْرًا، وَلَا تَزْدَرِيهِمْ بِهِجْرَتِكَ غَدْرًا، وَلَا تَكْذِبُهُمْ إِذَا أَقَامُوا لَدَيْكَ عُذْرًا». فَقَالَ الرَّشِيدُ: هُوَ كَذَلِكَ، فَمَا عُذْرُكَ مَعَ مَا أَرَى مِنْ حَالِكِ، وَتَسْيِيرِكَ مِنْ حِجِازَكَ إِلَى عِرَاقِنَا الَّتِي فَتَحَهَا اللَّهُ عَلَيْنَا بَعْدَ أَنْ بَغَى صَاحِبُكَ، ثُمَّ اتَّبَعَهُ الْأَرْذَلُونَ وَأَنْتَ رَئِيسُهُمْ، فَمَا يَنْفَعُ لَكَ الْقَوْلُ مَعَ إِقَامَةِ الْحُجَّةِ، وَلَنْ تَضُرَّ الشَّهَادَةُ مَعَ إِظْهَارِ التَّوْبَةِ. فَقَالَ لَهُ الشَّافِعِيُّ: «يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَمَّا إِذَا اسْتَطْلَقَنِي الْكَلَامُ فَلَسْنَا نُكَلِّمُ إِلَّا عَلَى الْعَدْلِ وَالنَّصَفَةِ». فَقَالَ لَهُ الرَّشِيدُ: ذَلِكَ لَكَ. فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: «وَاللَّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَوِ اتَّسَعَ لِي الْكَلَامُ عَلَى مَا بِي لَمَا شَكَوْتُ، لَكِنَّ الْكَلَامَ مَعَ ثِقْلِ الْحَدِيدِ يُعْوِرُ فَإِنْ جُدْتَ عَلِيَّ بِفَكِّهِ تَرَكْتَ كَسْرَهُ إِيَّايَ، وَفَصَحْتُ عَنْ نَفْسِي، وَإِنْ كَانَتِ الْأُخْرَى فَيَدُكَ الْعُلْيَا، وَيَدِي السُّفْلَى، وَاللَّهُ غَنِيٌّ حُمَيْدٌ». فَقَالَ الرَّشِيدُ لِغُلَامِهِ: يَا سِرَاجُ، حُلَّ عَنْهُ. فَأَخَذَ مَا فِي قَدَمَيْهِ مِنَ الْحَدِيدِ، فَجَثَى عَلَى رُكْبَتِهِ الْيسْرَى وَنَصَبَ الْيمْنَى، وَابْتَدَرَ الْكَلَامَ، فَقَالَ: «وَاللَّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَأَنْ يَحْشُرَنِي اللَّهُ تَحْتَ رَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ، وَهُوَ مِمَّنْ قَدْ عَلِمْتَ لَا ينْكِرُ عَنْهُ اخْتِلَافُ الْأَهْوَاءِ، وَتَفَرَّقَ الْآرَاءِ، أَحَبُّ إِلَيَّ وَإِلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ مِنْ أَنْ يَحْشُرَنِي تَحْتَ رَايَةِ قَطَرِيِّ بْنِ الْفُجَاءَةِ الْمَازِنِيِّ». وَكَانَ الرَّشِيدُ مُتَّكِئًا فَاسْتَوَى جَالِسًا، وَقَالَ: صَدَقْتَ وَبَرَرْتَ، لَأَنْ تَكُونَ تَحْتَ رَايَةِ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ وَأَقَارِبِهِ إِذَا اخْتَلَفَتِ الْأَهْوَاءُ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَحْشُرَكَ اللَّهُ تَحْتَ رَايَةِ خَارِجِيٍّ يَأْخُذُهُ اللَّهُ بَغْتَةً، فَأَخْبِرْنِي يَا شَافِعِيُّ، مَا حُجَّتُكَ عَلَى أَنَّ قُرَيْشًا كُلَّهَا أَئِمَّةٌ وَأَنْتَ؟ قَالَ الشَّافِعِيُّ: «قَدِ افْتَرَيْتُ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنْ تَطِبْ نَفْسِي لَهَا. وَهَذِهِ كَلِمَةٌ مَا سَبَقْتُ بِهَا، وَالَّذِينَ حَكَوْهَا لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ أَبْطَلُوا مَعَانِيَهُ؛ فَإِنَّ الشَّهَادَةَ لَا تَجُوزُ إِلَّا كَذَلِكَ». فَنَظَرَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ إِلَيْهِمَا ⦗٨٧⦘، فَلَمَّا رَآهُمَا لَا يَتَكَلَّمَانِ عَلِمَ مَا فِي ذَلِكَ، وَأَمْسَكَ عَنْهُمَا، ثُمَّ قَالَ لَهُ الرَّشِيدُ: قَدْ صَدَقْتَ يَا ابْنَ إِدْرِيسَ فَكَيْفَ بَصَرُكَ بِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى؟ فَقَالَ لَهُ الشَّافِعِيُّ: " عَنْ أَيِّ كِتَابِ اللَّهِ تَسْأَلُنِي؟ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنْزَلَ ثَلَاثَةً وَسَبْعِينَ كِتَابًا عَلَى خَمْسَةِ أَنْبِيَاءٍ، وَأَنْزَلَ كِتَابًا مَوْعِظَةً لِنَبِيٍّ وَحْدَهُ، وَكَانَ سَادِسًا، أَوَّلُهُمْ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَعَلَيْهِ أَنْزَلَ ثَلَاثِينَ صَحِيفَةً كُلُّهَا أَمْثَالٌ، وَأَنْزَلَ عَلَى أَخْنُوخَ وَهُوَ إِدْرِيسُ عَلَيْهِ السَّلَامُ سِتَّ عَشْرَةَ صَحِيفَةً كُلُّهَا حِكَمُ وَعِلْمُ الْمَلَكُوتِ الْأَعْلَى. وَأَنْزَلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ثَمَانِيَةَ صُحُفٍ كُلَّهَا حِكَمٌ مُفَصَّلَةٌ فِيهَا فَرَائِضُ وَنُذُرُ. وَأَنْزَلَ عَلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ التَّوْرَاةَ كُلُّهَا تَخْوِيفٌ وَمَوْعِظَةٌ. وَأَنْزَلَ عَلَى عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ الْإِنْجِيلَ لِيبَيِّنَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ التَّوْرَاةِ، وَأَنْزَلَ عَلَى دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كِتَابًا كُلُّهُ دُعَاءٌ وَمَوْعِظَةٌ لِنَفْسِهِ، حَتَّى يُخَلِّصُهُ بِهِ مِنْ خَطِيئَتِهِ وَحِكَمٌ فِيهِ لَنَا وَاتِّعَاظٌ لِدَاوُدَ وَأَقَارِبِهِ مِنْ بَعْدِهِ. وَأَنْزَلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْفُرْقَانَ وَجَمَعَ فِيهِ سَائِرَ الْكُتُبِ، فَقَالَ: {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: ٨٩] , {وَهَدًى وَمَوْعِظَةً} [آل عمران: ١٣٨] , {أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَّتْ} [هود: ١] " فَقَالَ لَهُ الرَّشِيدُ: قَدْ أَحْسَنْتَ فِي تَفْصِيلِكَ، أَفَكُلُّ هَذَا عَلِمْتَهُ؟ فَقَالَ لَهُ: «إِي وَاللَّهِ، يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ». فَقَالَ لَهُ الرَّشِيدُ: قَصْدِي كِتَابَ اللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ عَلَى ابْنِ عَمِّي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي دَعَانَا إِلَى قَبُولِهِ، وَأَمَرَنَا بِالْعَمَلِ بِمُحْكَمِهِ، وَالْإِيمَانِ بِمُتَشَابِهِهِ، فَقَالَ: «عَنْ أَيِّ آيَةٍ تَسْأَلُنِي؟ عَنْ مُحْكَمِهِ، أَمْ عَنْ مُتَشَابِهِهِ؟ أَمْ عَنْ تَقْدِيمِهِ؟ أَمْ عَنْ تَأْخِيرِهِ؟ أَمْ عَنْ نَاسِخِهِ؟ أَمْ مَنْسُوخِهِ؟ أَمْ عَنْ مَا ثَبَتَ حُكْمُهُ وَارْتَفَعَتْ تِلَاوَتُهُ، أَمْ عَنْ مَا ثَبَتَتْ تِلَاوَتُهُ وَارْتَفَعَ حُكْمُهُ، أَمْ عَنْ مَا ضَرَبَهُ اللَّهُ مَثَلًا؟ أَمْ عَنْ مَا ضَرَبَهُ اللَّهُ اعْتِبَارًا؟ أَمْ عَنْ مَا أَحْصَى فِيهِ فِعَالَ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ؟ أَمْ عَنْ مَا قَصَدَنَا اللَّهُ بِهِ مِنْ فِعْلِهِ تَحْذِيرًا؟» قَالَ: بِمَ ذَاكَ؟ حَتَّى عَدَّ لَهُ الشَّافِعِيُّ ثَلَاثَةً وَسَبْعِينَ حُكْمًا فِي الْقُرْآنِ. فَقَالَ لَهُ الرَّشِيدُ: وَيْحَكَ يَا شَافِعِيُّ أَفَكُلَّ هَذَا يُحِيطُ بِهِ عِلْمُكَ. فَقَالَ لَهُ: «يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ الْمِحْنَةُ عَلَى الْقَائِلِ كَالنَّارِ عَلَى الْفِضَّةِ، تُخْرِجُ جَوْدَتَهَا مِنْ رَدَاءَتِهَا، فَهَا أَنَا ذَا , فَامْتَحِنْ». فَقَالَ لَهُ الرَّشِيدُ: مَا أَحْسَنَ أَعِدْ مَا قُلْتَ، فَسَأَسْأَلُكَ عَنْهُ بَعْدَ هَذَا الْمَجْلِسِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. قَالَ لَهُ: وَكَيْفَ بَصَرُكَ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه ⦗٨٨⦘ وسلم. فَقَالَ لَهُ الشَّافِعِيُ: «إِنِّي لَأَعْرِفُ مِنْهَا مَا يَخْرُجُ عَلَى وَجْهِ الْإِيجَابِ، وَلَا يَجُوزُ تَرْكُهُ، كَمَا لَا يَجُوزُ تَرْكُ مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ، وَمَا خَرَجَ عَلَى وَجْهِ التَّأْدِيبِ، وَمَا خَرَجَ عَلَى وَجْهِ الْخَاصِّ لَا يُشْرَكُ فِيهِ الْعَامُّ، وَمَا خَرَجَ عَلَى وَجْهِ الْعُمُومِ يَدْخُلُ فِيهِ الْخُصُوصُ، وَمَا خَرَجَ جَوَابًا عَنْ سُؤَالِ سَائِلٍ لَيْسَ لِغَيْرِهِ اسْتِعْمَالُهُ، وَمَا خَرَجَ مِنْهُ ابْتِدَاءً لِازْدِحَامِ الْعُلُومِ فِي صَدْرِهِ، وَمَا فَعَلَهُ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ وَاقْتَدَى بِهِ الْخَاصَّةُ وَالْعَامَّةُ، وَمَا خَصَّ بِهِ نَفْسَهُ دُونَ النَّاسِ كُلِّهِمُ، مَعَ مَالًا يَنْبَغِي ذِكْرُهُ لِأَنَّهُ أَسْقَطَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنِ النَّاسِ وَسَنَّهُ ذِكْرًا». فَقَالَ لَهُ الرَّشِيدُ: أَخَذْتَ التَّرْتِيبَ يَا شَافِعِيُّ لِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَحْسَنْتَ مَوْضِعَهَا لِوَصْفِهَا، فَمَا حَاجَتُنَا إِلَى التَّكْرَارِ عَلَيْكَ، وَنَحْنُ نَعْلَمُ وَمَنْ حَضَرْنَا أَنَّكَ حَامِلُ نِصَابِهَا مِقْلَابُهَا. فَقَالَ لَهُ الشَّافِعِيُّ: «ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ، وَإِنَّمَا شَرَفُنَا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيكَ». فَقَالَ: كَيْفَ بَصَرُكَ بِالْعَرَبِيَّةِ؟ قَالَ: " هِيَ مَبْدَأُنَا وَطِبَاعُنَا بِهَا قُوِّمَتْ، وَأَلْسِنَتُنَا بِهَا جَرَتْ، فَصَارَتْ كَالْحَيَاةِ لَا تَتِمُّ إِلَّا بِالسَّلَامَةِ، وَكَذَلِكَ الْعَرَبِيَّةُ لَا تَسْلَمُ إِلَّا لِأَهْلِهَا، وَلَقَدْ وُلِدْتُ وَمَا أَعْرِفُ اللَّحْنَ، فَكُنْتُ كَمَنْ سَلِمَ مِنَ الدَّاءِ مَا سَلِمَ لَهُ الدَّوَاءُ، وَعَاشَ بَكَامِلِ الْهَنَاءِ. وَبِذَلِكَ شَهِدَ لِيَ الْقُرْآنُ: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} [إبراهيم: ٤] يَعْنِي قُرَيْشًا - وَأَنْتَ مِنْهُمْ وَأَنَا مِنْهُمْ، يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَالْعُنْصُرُ نَظِيفٌ، وَالْجُرْثُومَةُ مَنِيعَةٌ شَامِخَةٌ، أَنْتَ أَصْلٌ وَنَحْنُ فَرَعٌ وَهُوَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُفَسِّرٌ وَمُبَيِّنٌ، بِهِ اجْتَمَعَتْ أَحْسَابُنَا، فَنَحْنُ بَنُو الْإِسْلَامِ، وَبِذَلِكَ نُدْعَى وَنُنْسَبُ "، فَقَالَ لَهُ الرَّشِيدُ: صَدَقْتَ، بَارَكَ اللَّهُ فِيكَ. ثُمَّ قَالَ لَهُ: كَيْفَ مَعْرِفَتُكَ بِالشِّعْرِ؟ فَقَالَ: «إِنِّي لَأَعْرِفُ طَوِيلَهُ، وَكَامِلَهُ وَسَرِيعَهُ، وَمُجْتَثَّهُ، وَمُنْسَرِحَهُ، وَخَفِيفَهُ، وَهَزَجَهُ، وَرَجَزَهُ وَحِكَمَهُ، وَغَزَلَهُ، وَمَا قِيلَ فِيهِ عَلَى الْأَمْثَالِ تِبْيَانًا لِلْأَخْبَارِ، وَمَا قَصَدَ بِهِ العُشَّاقُ رَجَاءً لِلتَّلَاقِ، وَمَا رَثَى بِهِ الْأَوَائِلُ لِيَتَأَدَّبَ بِهِ الْأَوَاخِرُ، وَمَا امْتَدَحَ بِهِ الْمُكْثِرُونَ بِابْتِلَاءِ أُمَرَائِهِمْ، وَعَامَّتُهَا كَذِبٌ وَزُورٌ، وَمَا نَطَقَ بِهِ الشَّاعِرُ لِيُعْرَفَ تَنْبِيهًا، وَحَالَ لِشَيْخِهِ فَوَجَلَ شَاعِرُهُ وَمَا خَرَجَ عَلَى طَرَبٍ مِنْ قَائِلِهِ، لَا أَرَبَ لَهُ، وَمَا تَكَلَّمَ بِهِ الشَّاعِرُ فَصَارَ حِكْمَةً لِمُسْتَمِعِهِ»، فَقَالَ لَهُ الرَّشِيدُ: اكْفُفْ يَا شَافِعِيُّ فَقَدْ أَنْفَقْتَ ⦗٨٩⦘ فِي الشَّعْرِ مَا ظَنَنْتُ أَنَّ أَحَدًا يعْرَفُ هَذَا وَيَزِيدُ عَلَى الْخَلِيلِ حَرْفًا وَلَقَدْ زِدْتَ وَأَفْضَلْتَ. فَكَيْفَ مَعْرِفَتُكَ بِالْعَرَبِ قَالَ: «أَمَّا أَنَا فَمِنْ أَضْبَطِ النَّاسِ لِآبَائِهَا وَجَوَامِعِ أَحْسَابِهَا، وَشَوَابِكِ أَنْسَابِهَا، وَمَعْرِفَةِ وَقَائِعِهَا، وَحَمْلِ مَغَازِيهَا فِي أَزْمِنَتِهَا وَكَمِّيَّةِ مُلُوكِهَا وَكَيْفِيَّةِ مُلْكِها، وَمَاهِيَّةِ مَرَاتِبِهَا، وَتَكْمِيلِ مَنَازِلِهَا، وَأَنْدِيَةِ عِرَاضِهَا وَمَنَازِلِهَا، مِنْهُمْ تُبَّعٌ وَحِمْيَرُ، وَجَفْنَةُ، وَالْأَسْطَحُ، وَعِيصٌ وَعُوَيْصٌ، وَالْإِسْكَنْدَرُ، وَأَسْفَادُ، وَأُسْطَطَاوِيسُ، وَسُوطُ، وَبُقْرَاطُ، وَأَرْسِطُطَالِيسُ، وَأَمْثَالُهُمْ مِنَ الرُّومِ إِلَى كِسْرَى وَقَيْصَرَ، وَنُوبَةَ، وَأَحْمَرَ، وَعَمْرِو بْنِ هِنْدٍ، وَسَيْفِ بْنِ ذِي يَزِنَ، وَالنُّعْمَانِ بْنِ الْمُنْذِرِ، وَقَطَرِ بْنِ أَسْعَدَ، وَصَعْدِ بْنِ سَعْفَانَ، وَهُوَ جَدُّ سَطِيحٍ الْغَسَّانِيِّ لِأَبِيهِ فِي أَمْثَالِهِمْ مِنْ مُلُوكِ قُضَاعَةَ وَهَمْدَانَ وَلِحْيَانَ رَبِيعَةَ وَمُضَرَ». فَقَالَ لَهُ الرَّشِيدُ: يَا شَافِعِيُّ، لَوْلَا أَنَّكَ مِنْ قُرَيْشٍ لَقُلْتُ: إِنَّكَ مِمَّنْ لِينَ لَهُ الْحَدِيدُ، فَهَلْ مِنْ مَوْعِظَةٍ؟ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: «إِنَّكَ تَخْلَعُ رِدَاءَ الْكِبْرِ عَنْ عَاتِقِكَ، وَتَضَعُ تَاجَ الْهَيْبَةِ عَنْ رَأْسِكَ، وَتَنْزِعُ قَمِيصَ التَّجَبُّرِ عَنْ جَسَدِكَ، وَتُفَتِّشُ نَفْسَكَ، وَتَنْشُرُ سِرَّكَ، وَتُلْقِي جِلْبَابَ الْحَيَاءِ عَنْ وَجْهِكَ، مُسْتَكِينًا بَيْنَ يَدَيْ رَبِّكَ. وَأَكُونُ وَاعِظًا لَكَ عَنِ الْحَقِّ، وَتَكُونُ مُسْتَمِعًا بِحُسْنِ الْقَبُولِ؛ فَيَنْفَعَنِي اللَّهُ بِمَا أَقُولُ، وَيَنْفَعُكَ بِمَا تَسْمَعُ». فَقَالَ لَهُ الرَّشِيدُ: أَمَا إِنِّي قَدْ فَعَلْتُ وَسَمِعْتُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ، وَلِلْوَاعِظِينَ بَعْدَهُمَا، فَعِظْ وَأَوْجِزْ. فَحَلَّ الشَّافِعِيُّ عَنْهُ إِزَارَهُ، وَحَسَرَ عَنْ ذِرَاعَيْهِ، وَقَالَ: " يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ امْتَحَنَكَ بِالنَّعَمِ، وَابْتَلَاكَ بِالشُّكْرِ فَفَضْلُ النِّعْمَةِ أَحْسَنُ لِتَسْتَغْرِقَ بِقَلِيلِهَا كَثِيرًا مِنْ شُكْرِكَ، فَكُنْ لِلَّهِ تَعَالَى شَاكِرًا، وَلِآلَائِهِ ذَاكِرًا، تَسْتَحِقَّ مِنْهُ الْمَزِيدَ. وَاتَّقِ اللَّهَ فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ، تَسْتَكْمِلِ الطَّاعَةَ، وَاسْمَعْ لِقَائِلِ الْحَقِّ وَإِنْ كَانَ دُونَكَ تَشْرُفْ عِنْدَ اللَّهِ، وَتَزِدْ فِي عَيْنِ رَعِيَّتِكَ، وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَفْتِشُ سِرَّكَ، فَإِنْ وَجَدَهُ بِخِلَافِ عَلَانِيَتِكَ شَغَلَكَ بِهَمِّ الدُّنْيَا، وَفَتَقَ لَكَ مَا يَزْنِقُ عَلَيْكَ، وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حُمَيْدٌ، وَإِنْ وَجَدَهُ مُوَافِقًا لِعَلَانِيَتِكَ أَحَبَّكَ، وَصَرَفَ هَمَّ الدُّنْيَا عَنْ قَلْبِكَ، وَكَفَاكَ مَئُونَةَ نَظَرِكَ لِغَيْرِكَ، وَتَرَكَ لَكَ نَظَرَكَ لِنَفْسِكَ، وَكَانَ الْمُقَوِّيَ لِسَيَاسَتِكَ. وَلَنْ ⦗٩٠⦘ تُطَاعَ إِلَّا بِطَاعَتِكَ لِلَّهِ تَعَالَى، فَكُنْ طَائِعًا تَكْتَسِبْ بِذَلِكَ السَّلَامَةَ فِي الْعَاجِلِ وَحُسْنَ الْمُنْقَلَبِ فِي الآجِلِ: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقُوا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل: ١٢٨] وَاحْذَرِ اللَّهَ حَذَرَ عَبْدٍ عَلِمَ مَكَانَ عَدُوِّهِ، وَغَابَ عَنْهُ وَلِيُّهُ، فَتَيَقَّظَ خَوْفَ السُّرَى، لَا تَأْمَنْ مِنْ مَكْرِ اللَّهِ لِتَوَاتُرِ نِعَمِهِ عَلَيْكَ، فَإِنَّ ذَلِكَ مَفْسَدَةٌ لَكَ، وَذَهَابٌ لِدِينِكَ، وَأَسْقِطِ الْمَهَابَةَ فِي الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ، وَعَلَيْكَ بِكِتَابِ اللَّهِ الَّذِي لَا يَضِلُّ الْمُسْتَرْشِدُ بِهِ، وَلَنْ تُهْلَكَ مَا تَمَسَّكْتَ بِهِ، فَاعْتَصَمِ بِاللَّهِ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، وَعَلَيْكَ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَكُنْ عَلَى طَرِيقَةِ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ، فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِ وَمَا نَصَبَ الْخُلَفَاءُ الْمَهْدِيُّونَ فِي الْخَرَاجِ وَالْأَرَضِينَ وَالسَّوَادِ وَالْمَسَاكِنِ وَالدِّيَارَاتِ فَكُنْ لَهُمْ تَبَعًا، وَبِهِ عَامِلًا رَاضِيًا مُسَلِّمًا وَاحْذَرِ التِّلْبِيسَ فِيهِ، فَإِنَّكَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِكَ، وَعَلَيْكَ بِالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ: {الَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ} فَاقْبَلْ مِنْ مُحْسِنِهِمْ وَتَجَاوَزْ عَنْ مُسِيئِهِمْ، وَآتِهِمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي أَتَاكَ، وَلَا تُكْرِهْهُمْ عَلَى إِمْسَاكٍ عَنْ حَقٍّ، وَلَا عَلَى خَوْضٍ فِي بَاطِلٍ فَإِنَّهُمُ الَّذِينَ مَكَّنُوا لَكَ الْبِلَادَ وَاسْتَخْلَصُوا لَكَ الْعِبَادَ وَنَوَّرُوا لَكَ الظُّلْمَةَ وَكَشَفُوا عَنْكَ الْغُمَّةَ، وَمَكَّنُوا لَكَ فِي الْأَرْضِ، وَعَرَّفُوكَ السِّيَاسَةَ، وَقَلَّدُوكَ الرِّيَاسَةَ، فَنَهَضْتَ بِثِقْلِهَا بَعْدَ ضَعْفٍ، وَقَوِيتَ عَلَيْهَا بَعْدَ فَشَلٍ، كُلَّ ذَلِكَ يَرْجُوكَ مَنْ كَانَ مِنْ أَمْثَالِهِمْ لِعِفَّتِهِمْ، طَمَعَ الزِّيَادَةِ لَهُمْ؛ فَلَا تُطِعِ الْخَاصَّةَ تَقَرُّبًا إِلَيْهِمْ بِظُلْمِ الْعَامَّةِ، وَلَا تُطِعِ الْعَامَّةِ تَقَرُّبًا إِلَيْهِمْ بِظُلْمِ الْخَاصَّةِ؛ لِتَسْتَدِيمَ السَّلَامَةُ، وَكُنْ لِلَّهِ كَمَا تُحِبُّ أَنْ يَكُونَ لَكَ أَوْلِيَاؤُكَ مِنَ الْعَامَّةِ مِنَ السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ؛ فَإِنَّهُ مَا وُلِّيَ أَحَدٌ عَلَى عَشَرَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَلَمْ يُحِطْهُمْ بِنَصِيحَةٍ إِلَّا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَدُهُ مَغْلُولَةٌ إِلَى عُنُقِهِ لَا يَفُكُّهَا إِلَّا عَدْلُهُ، وَأَنْتَ أَعْرَفُ بِنَفْسِكَ "، قَالَ: فَبَكَى الرَّشِيدُ - وَقَدْ كَانَ فِي خِلَالِ هَذِهِ الْمَوْعِظَةِ يَبْكِي لَا يُسْمَعُ لَهُ صَوْتٌ - فَلَمَّا بَلَغَ إِلَى هَذَا الْفَصْلِ بَكَى الرَّشِيدُ وَعَلَا نَحِيبُهُ، وَبَكَى جُلَسَاؤُهُ، وَبَكَى مُحَمَّدُ وَأَبُو يُوسُفَ. فَقَالَ الْوَالِي: يَا هَذَا الرَّجُلَ، احْبِسْ لِسَانَكَ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَدْ قَطَعْتَ قَلْبَهُ حُزْنًا، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، وَهُوَ قَائِمٌ عَلَى قَدَمِهِ: اغْمِدْ لِسَانَكَ يَا شَافِعِيُّ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، فَإِنَّهُ أَمْضَى مِنْ سَيْفِكَ - وَالرَّشِيدُ يَبْكِي لَا يُفِيقُ - فَأَقْبَلَ ⦗٩١⦘ الشَّافِعِيُّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَالْجَمَاعَةِ فَقَالَ: «اسْكُتُوا أَخْرَسَكُمُ اللَّهُ، لَا تَذْهَبُوا بِنُورِ الْحِكْمَةِ يَا مَعْشَرَ عُبَيْدِ الرِّعَاعِ، وَعُبَيْدِ السَّوْطِ وَالْعَصَا، أَخَذَ اللَّهُ لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْكُمْ لِتَلْبِيسِكُمُ الْحَقَّ عَلَيْهِ، وَهُوَ يَرِثُكُمُ الْمَلِكَ لَدَيْهِ، أَمَا وَاللَّهِ مَا زَالَتِ الْخِلَافَةُ بِخَيْرٍ مَا صُرِفَ عَنْهَا أَمْثَالُكُمْ، وَلَنْ تَزَالَ بِشَرٍّ مَا اعْتَصَمَتْ بِكُمْ»، فَرَفَعَ الرَّشِيدُ رَأْسَهُ وَأَشَارَ إِلَيْهِمْ أَنْ كُفُّوا، وَأَقْبَلَ عَلَيَّ بِسَيْفٍ، فَقَالَ: خُذْ هَذَا الْكَهْلَ إِلَيْكَ، وَلَا تَحُلَّنِي مِنْهُ. ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى الشَّافِعِيِّ فَقَالَ: قَدْ أَمَرْتُ لَكَ بِصِلَةٍ فَرَأْيُكَ فِي قَبُولِهَا مُوقَفٌ. فَقَالَ لَهُ الشَّافِعِيُّ: «كَلَّا، وَاللَّهِ لَا يَرَانِي اللَّهُ تَعَالَى قَدْ سَوَّدْتُ وَجْهَ مَوْعِظَتِي بِقَبُولِ الْجَزَاءِ عَلَيْهَا، وَلَقَدْ عَاهَدْتُ اللَّهَ عَهْدًا أَنِّي لَا أُخْلَطُ بِمَلِكٍ مِنَ الْمُلُوكِ تَكَبَّرَ فِي نَفْسِهِ وَتَصَغَّرَ عِنْدَ رَبِّهِ إِلَّا ذَكَرْتُ اللَّهَ تَعَالَى، لَعَلَّهُ أَنْ يُحْدِثَ لَهُ ذِكْرًا». ثُمَّ نَهَضَ، فَلَمَّا خَرَجَ أَقْبَلَ الرَّشِيدُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَيَعْقُوبَ فَقَالَ لَهُمَا: مَا رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ قَطُّ أَفَرَأَيْتُمَا كَيَوْمِكُمَا؟ فَلَمْ نَجِدْ بُدًّا مِنْ أَنْ نَقُولَ: لَا. فَقَالَ الرَّشِيدُ لَهُمَا: أَبِهَذَا تُغْرِيَانِي لَقَدْ بُؤْتُمَا الْيَوْمَ بِإِثْمٍ عَظِيمٍ، لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيَّ بِالتَّأْيِيدِ فِي أَمْرِهِ، كَيْفَمَا أَوْقَعْتُمَانِي فِيمَا لَا خَلَاصَ لِي مِنْهُ عِنْدَ رَبِّي؟ ثُمَّ وَثَبَ الرَّشِيدُ وَانْصَرَفَ النَّاسُ. فَلَقَدْ رَأَيْتُ مُحَمَّدًا وَهُوَ بَعْدَ ذَلِكَ يُكْثِرُ التَّرَدُّدَ إِلَى الشَّافِعِيِّ، وَرُبَّمَا حُجِبَ ثُمَّ إِنَّ الشَّافِعِيَّ بَعْدَ ذَلِكَ دَخَلَ عَلَى الرَّشِيدِ فَأَمَرَ لَهُ بِأَلْفِ دِينَارٍ فَقَبِلَهَا، فَضَحِكَ الرَّشِيدُ وَقَالَ: لِلَّهِ دَرُّكَ مَا أَفْطَنَكَ؟ قَاتَلَ اللَّهُ عَدُوَّكَ فَقَدْ أَصْبَحَ لَكَ وَلِيًّا. وَأَمَرَ الرَّشِيدُ خَادِمَهُ سِرَاجًا بِاتِّبَاعِهِ، فَمَا زَالَ يُفَرِّقُهَا قَبْضَةً قَبْضَةً حَتَّى انْتَهَى إِلَى خَارِجِ الدَّارِ وَمَا مَعَهُ إِلَّا قَبْضَةٌ وَاحِدَةٌ فَدَفَعَهَا إِلَى غُلَامهِ وَقَالَ لَهُ: انْتَفِعْ بِهَا. فَأَخْبَرَ سِرَاجٌ الرَّشِيدَ بِذَلِكَ فَقَالَ: لِهَذَا ذَرُعَ هَمُّهُ، وَقَوِيَ مَتْنُهُ. فَاسْتَمَرَّ الرَّشِيدُ عَلَيْهِمَا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute