للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

حَدَّثَنَا أَبِي قَالَ: قَرَأْتُ مِنْ خَطِّ جَدِّي مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ، وَكَانَ قَدْ لَقِيَ عِدَّةً مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُبَارَكِ: " دَخَلْتُ مَسْجِدًا فَرَأَيْتُ فَتًى قَدِ اكْتَنَفَهُ النَّاسُ قِيَامًا وَقُعُودًا، وَأَقْرَبُهُمْ إِلَيْهِ طَائِفَةٌ مَنْصُوبَةٌ يَسْأَلُونَهُ عَنْ عِلْمِ طَرِيقِ الْآخِرَةِ وَعَنْ مَعْرِفَةِ الْآفَاتِ الْوَارِدَةِ، فَيُجِيبُهُمْ بِلِسَانٍ ذَرِبٍ فِي الْحِكْمَةِ، مُتَّسَعٍ ⦗٣٠٠⦘ فِي الْمَعْرِفَةِ، قَرِيبٍ مِنْ كُلِّ حُجَّةٍ، لِسَانٍ لَا يَغْضَبُ عَلَى سَائِلِهِ وَإِنْ رَدَّدَ عَلَيْهِ الْمَسْأَلَةَ حَتَّى يُفْهِمَهُ أَوْ يَكُونَ جَاهِلًا فَيُعَلِّمَهُ بِلِسَانٍ قَدْ بَذَّ بِعَزْوِ سَنَنِهِ فُرْسَانَ الْكَلَامِ عَذْبِ اللَّفْظِ مِطْلَاقِ الْمُطْلَقِ. فَدَنَوْتُ مِنْهُ وَقَدْ تَفَرَّقَ النَّاسُ عَنْهُ وَصَارَ جَلِيسَ حُزْنِهِ، وَحَلِيفَ هَمِّهِ، وَشَرِيكَ سَدَمِهِ، وَأَخِيذَ جِنَايَتِهِ، وَأَسِيرَ نَارِ الْعُفَاةِ، قَدْ غَشِيَتْهُ مِنْ هُمُومِ قَلْبِهِ فَلَمْ أَزَلْ قَاعِدًا مَتَسَلِّسًا فِي دُنُوِّي وَهُدُوئِي قَدْ جَمَعْتُ فِيهِ نَفْسِي حَتَّى إِذَا صِرْتُ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي لَا عَتَقَ صَوْتُهُ، وَنَظَرَ إِلَيَّ فِي حَالِ مَنْ غَضِبَ عَلَى نَفْسِهِ، وَضَنَا مَنْ تَوَهَّمَ أُمْنِيَّتَهُ لَاذَ بِفَضْلِهِ عَلَى ضَعْفِي وَلَمْ يُلْجِئْنِي إِلَى مَذَلَّةٍ فِي مَسْأَلَتِي حَتَّى قَالَ لِي: حَيَّاكَ اللَّهُ بِالسَّلَامِ وَنَعَّمَنَا وَأَنْعَمَنَا وَإِيَّاكَ بِثُبُوتِ الْأَحْزَانِ، فَكَشَفَ بِقَوْلِهِ ضِيقًا عَنْ قَلْبِي وَأَدَّبَنِي لِنَفْسِهِ، فَنِعْمَ مَا بِهِ أَدَّبَنِي، فَلَمَّا تَجَلَّى عَنَيَّ ضِيقُ الْحَصَرِ وَسَقَطَ الْخَجَلُ وَزَالَ الْوَجَلُ أَوْلَانِي أُنْسَ الْمَشْهَدِ، وَجَذَبَنِي بِلِسَانِهِ إِلَى قَرِيبِ الْمَقْعَدِ. قُلْتُ لِنَفْسِي: قَدْ ظَفَرْتِ فَسَلِي فَقُلْتُ: رَحِمَكَ اللَّهُ مَا هَذَا السَّبِيلُ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِدَوْسِهِ وَقَطْعِهِ؟ قُلْتُ: رَحِمَكَ اللَّهُ فَهَلْ لِهَذَا السَّبِيلِ مِنْ شَرْحٍ يُبَيِّنُ مَنَارَهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، أَمَّا السَّبِيلُ فَهُوَ الْإِيمَانُ بِاللَّهِ طَرِيقُ مُحَمَّدٍ مَمْدُودٌ لِأَهْلِ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلَى الْآخِرَةِ، فَمَنْ تَعَمَّدَ دَرْسَهُ وَقَطْعَهُ عَزَّ فَأَعَزَّ غَيْرَهُ وَرَضِيَ بِهِ عَنِ الِاخْتِيَارِ عَلَيْهِ مَدَّ بِهِ الطَّرِيقَ إِلَى الْآخِرَةِ، وَإِنْ هُوَ عَدَلَ عَنْ بَابِ الطَّرِيقِ بِالِاخْتِيَارِ مِنْهُ لِلْهَوَى الَّذِي خَذَلَهُ مِنْهُ لَزِمَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: ١٥٣] قُلْتُ: رَحِمَكَ اللَّهُ فَمَا الْإِيمَانُ الْمُؤَدِّي إِلَى الْآخِرَةِ الْمُوَصِّلُ بِأَهْلِهِ إِلَى مَحْمُودِ الْعَاقِبَةِ؟ فَقَالَ: إِنَّ الَّذِي سَأَلْتَ عَنْهُ مِنَ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ إِيمَانٌ ظَاهِرٌ وَقَعَ بِهِ السَّتْرُ الظَّاهِرُ وَإِيمَانٌ بَاطِنٌ وَقَعَتْ بِهِ الْخَشْيَةُ الْبَاطِنَةُ. قُلْتُ: فَمَا الْإِيمَانُ الظَّاهِرُ؟ قَالَ: إِقْرَارُ اللِّسَانِ بِالتَّوْحِيدِ وَمُوَافَقَةُ جَوَارِحِ الْأَبْدَانِ فَرَائِضَ التَّوْحِيدِ هَذَا هُوَ الْإِيمَانُ الظَّاهِرُ الَّذِي يَقَعُ السَّتْرُ الظَّاهِرُ بِهِ وَيَحْقِنُ بِهِ الْعَبْدُ دَمَهُ وَمَالَهُ إِلَّا فِي الْمَالِ مِنْ حُقُوقِ إِيمَانِهِ. وَأَمَّا الْإِيمَانُ الْبَاطِنُ الَّذِي وَقَعَتْ بِهِ الْخَشْيَةُ الْبَاطِنَةُ فَهُوَ إِيمَانُ الْقَلْبِ وَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةٍ: فَالْأَوَّلُ مِنْهَا: التَّصْدِيقُ لِلَّهِ فِيمَا وَقَعَ بِهِ وَعْدُهُ وَوَعِيدُهُ، وَالثَّانِي: حُسْنُ الظَّنِّ بِاللَّهِ تَعَالَى مِنْ غَيْرِ الْمَعْرِفَةِ ⦗٣٠١⦘، وَالثَّالِثُ: إِلْقَاءُ التُّهَمِ عَنِ اللَّهِ مِنْ عَقْدِ الثِّقَةِ بِهِ. قُلْتُ: رَحِمَكَ اللَّهُ فَسِّرْ لِي مَا وَصَفْتَ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي ذَكَرْتَ أَنَّهَا إِيمَانٌ قَلْبِيٌّ. قَالَ: نَعَمْ يَا فَتًى، إِنَّ التَّصْدِيقَ لِلَّهِ إِنَّمَا هُوَ مِنْ عَيْنِ الْمَعْرِفَةِ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمَّا أَنْ صَحَّتِ الْمَعْرِفَةُ بِاللَّهِ سَقَطَ الِارْتِيَابُ عَنْهُ لِسُقُوطِ الْجَهْلِ بِهِ عَنْ قَلْبِهِ، فَلَمَّا سَقَطَ اعْتَقَدَ الْقَلْبُ تَصْدِيقًا قَدْ دَلَّتِ الْمَعْرِفَةُ عَلَى تَصْدِيقِهِ فَإِذَا صَحَّ هَذَا فِي الْقُلُوبِ وَتَمَكَّنَ مِنْ عَقَائِدِها انْفَتَقَ مِنْ هَذَا نُورٌ فِيهِ دَلَالَةُ النَّفْسِ عَلَى مُكَوِّنِهَا فَإِذَا صَحَّ الْعِلْمُ فِيهَا بِأَنَّهَا مُكَوَّنَةٌ لَا مِنْ شَيْءِ كُوِّنَتْ دَلَّهَا وُجُودُ مَا عَلِمَتْهُ مِنْ خَلْقِهَا عَلَى الشَّيْءِ الْمُغَيَّبِ عَنْهَا أَنَّهَا أَعْجَبُ مِمَّا قَدْ شَاهَدَتْهُ بِنَظَرٍ، فَهَا هُنَا سَكَنَ الْقَلْبُ إِلَى تَصْدِيقِ الرَّبِّ عَزَّ وَجَلَّ فِيمَا وَقَعَ الْوَعْدُ بِهِ وَيَنْصَرِفُ الْهَمُّ إِلَى تَجْرِيدِ الْعِنَايَةِ إِلَى مَا وَقَعَ بِهِ أَمْرُ الرَّبِّ عَزَّ وَجَلَّ وَنَهْيُهُ. قُلْتُ: فَحُسْنُ الظَّنِّ؟ قَالَ: مَنْ عَلِمَ الْمَعْرِفَةَ بِاللَّهِ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَحْسَنَ إِلَيْهِ فِي خَلْقِهِ تَفَضُّلًا مِنْهُ عَلَيْهِ لَا بِاسْتِحْقَاقِ عَمَلٍ مُتَقَدِّمٍ كَانَ مِنْهُ إِلَيْهِ فَيَكُونُ مُبْتَدَؤُهُ بِهِ مِنْ نِعْمَةِ الْخِلْقَةِ أَنَّهَا تَفَضُّلٌ مِنَ اللَّهِ عَلَيْهِ أَقَامَ النَّظَرَ مِنَ الْعَقْلِ الْبَاطِنِ فِي الْأَشْيَاءِ فَيَنْظُرُ إِلَى كُلِّ مَا قَعَدَ بِهِ الْجَهْلُ عَنْ مَعْرِفَتِهِ مِنَ الْعِلْمِ الَّذِي يَحْتَاجُ إِلَى تَقْوِيَةِ مَعْرِفَتِهِ وَإِلَى طَلَبِ الِازْدِيَادِ فِي تَصْدِيقِ رَبِّهِ وَحُسْنِ ظَنِّهِ بِمَا جَرَى بِهِ تَدْبِيرُهُ فِيهِ عَلِمَ أَنَّ وَهَنَ تَصْدِيقِهِ وَضَعْفَ حُسْنِ ظَنِّهِ مِنْ جَهْلِهِ بِرَبِّهِ. فَهَا هُنَا فِي مَقَامٍ تَنْهَتِكُ سُتُورُ الْجَهْلِ وَتَقَعُ الْبَصِيرَةُ مِنَ النَّظَرِ الَّذِي كَشَفَ عَنْ ضَرَرِ الْجَهْلِ فَإِذَا أَثْبَتَ الْقَلْبُ هَذَا مَعْرِفَةً عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَقَلَهُ مِنَ التُّرَابِ إِلَى حُسْنِ خِلْقَتِهِ وَزَيَّنَ خِلْقَتَهُ بِاسْتِوَاءِ الْعَافِيَةِ فِي خِلْقَتِهِ وَقَسَمَ لِعَافِيَتِهِ سِتْرًا يَتَقَلَّبُ فِيهِ وَتَطِيبُ بِهَذَا السِّتْرِ مَعِيشَتُهُ فَإِذَا صَحَّ الْعِلْمُ بِهَذَا كَانَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عِنْدَهُ غَيْرُ جَائِرٍ فِي رَحْمَتِهِ الَّتِي نَقَلَهُ بِهَا مِنَ التُّرَابِ إِلَى حُسْنِ خِلْقَتِهِ فَهُوَ أَيْضًا غَيْرُ جَائِزٍ فِي حُكْمٍ يُوقِعُهُ بِرَحْمَتِهِ. قُلْتُ: رَحِمَكَ اللَّهُ فَمِنْ أَيْنَ مَخْرَجُ التُّهَمِ؟ قَالَ: مِنْ ضَعْفِ الْمَعْرِفَةِ وَقِلَّةِ تَصْدِيقِ الْقَلْبِ بِالْعِزَّةِ وَاجْتِمَاعِ الْقَلْبِ مِنَ الْجَهْلِ بِالْمَعْرِفَةِ عَلَى حُبِّ الدُّنْيَا دُونَ الْآخِرَةِ، فَلَمَّا أَنْ لَمْ يُصَدِّقِ الْخَبَرَ تَصْدِيقًا يُؤَدِّي إِلَى ثِقَةٍ بِمَا وَقَعَ بِهِ الْخَبَرُ كَانَ اللَّهُ عِنْدَهُ غَيْرَ وَفِيٍّ فِيمَا وَعَدَ. قُلْتُ: رَحِمَكَ اللَّهُ، اضْرِبْ لِي فِي هَذَا مَثَلًا أَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى فَهْمِي وَأَتَبَيَّنُ فِيهِ مَعْنَى قَوْلِكَ. فَقَالَ: أَرَأَيْتَ لَوْ أَنَّ رَجُلًا عَرَفْتَهُ بِالْخُلْفِ ⦗٣٠٢⦘ فِي الْوَعْدِ ثُمَّ ضَمِنَ لَكَ شَيْئًا إِنْ وَفَّى لَكَ بِهِ كَانَ فِيهِ نَجَاتُكَ وَإِنْ هُوَ غَدَرَ بِكَ كَانَ فِيهِ عَطَبُكَ كُنْتَ بِهِ فِي عِدَتِهِ رَاضِيًا؟ قُلْتُ: لَا، قَالَ: فَمَنْ لَمْ تَعْرِفْهُ بِالْخُلْفِ مَا يَكُونُ عِنْدَكَ؟ قُلْتُ: وَفِيًّا غَيْرَ مُتَّهَمٍ. قَالَ: وَكَذَا عَقْدُ مَعْرِفَتِكَ بِاللَّهِ عَقْدُ وَفَاءٍ لَا عَقْدُ تُهْمَةٍ فَلَيْسَ فِي خُلْفِ عَقْدِ الْوَفَاءِ التُّهَمُ، فَمِنْ ضَعْفِ الْمَعْرِفَةِ ضَعْفُ التَّصْدِيقِ وَضَعْفُ حُسْنِ الظَّنِّ، وَوَقَعَتِ التُّهَمُ الْمُوجِبَةُ لِلنَّظَرِ إِلَى النُّفُوسِ الْمُعْتَرِكَةِ لَهَا لِثُبُوتِ أَسْبَابِ الْحِيلَةِ فِي طَلَبِ مَا وَقَعَ الْوَعْدُ مِنْ رَبِّهَا. قُلْتُ: رَحِمَكَ اللَّهُ حُسْنُ الظَّنِّ أَصْلٌ فَمَا فُرُوعُهُ؟ قَالَ: السُّكُوتُ وَالثِّقَةُ وَالطُّمَأْنِينَةُ وَالرِّضَا. قَالَ قُلْتُ: رَحِمَكَ اللَّهُ خَبِّرْنِي عَنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي ذَكَرْتَهَا تَجُرُّ إِلَى مَعْنًى وَاحِدٍ أَمْ لَهَا مَعَانٍ مُخْتَلِفَةٍ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا مَقَامٌ وَمَعْنًى بِخِلَافِ أَخِيهِ، فَقَالَ: أَبَيْتَ إِلَّا كَيِّسًا فِي الْمَسْأَلَةِ، إِنَّ السُّكُونَ يَا فَتًى، إِنَّمَا هُوَ مِنْ يَقِينِ الْمَعْرِفَةِ لَا مِنْ يَقِينِ الْإِيمَانِ، فَقَدْ مَسَّتْهُ شُعْبَةٌ مِنْ يَقِينِ الْإِيمَانِ. قُلْتُ: رَحِمَكَ اللَّهُ، جَرَحْتَ عَقْلِي فَدَاوِنِي بِمَثَلٍ مِنْكَ وَاشْفِنِي بِرِفْقِكَ وَاتَّئِدْ عَلَى جَزَعِي بِلِسَانِكَ. فَقَالَ: يَا فَتًى، أَخْبِرْنِي عَنِ الْمَاءِ السَّائِلِ فِي خُدُورِهِ إِذَا لَطَّتْهُ السُّيُولُ إِلَى مَغِيضِهِ أَيَكُونُ سَاكِنًا فِي مَسِيلِهِ أَوْ مُتَحَرِّكًا جَارِيًا؟ فَقَالَ: وَهَكَذَا الْمَعْرِفَةُ فِي سَيْلِهَا إِلَى الْقَلْبِ تَكُونُ فِي تَحْصِيلِ الْقَلْبِ مُتَحَرِّكَةً غَيْرَ سَاكِنَةٍ، فَإِذَا وَافَتْ مَغِيضَهَا مِنَ الْقَلْبِ سَكَنَتْ كَسُكُونِ الْمَاءِ فِي مَغِيضِهِ، يَا فَتًى، خَبِّرْنِي عَنِ الْمَاءِ فِي وَقْتِ مَا وَصَلَ إِلَى مَغِيضِهِ هَلْ أَنْظَرَكَ ضَوْءٌ مِنْهُ إِلَى مَا فِي قَعْرِهِ؟ قُلْتُ: لَا، قَالَ: وَلِمَ؟ قُلْتُ: لِأَنَّ السَّيْلَ مِنْ بِقَاعٍ مُخْتَلِفَةٍ فَحَمَلَ مِنْ طِينِهَا فِي صَفَا نَفْسِهِ فَخَفِيَ الصَّفَا لِمَا شَابَهُ مِنَ الطِّينِ فِي جَرْيِهِ فَلَمَّا أَنْ وَصَلَ إِلَى الْمَغِيضِ كَانَ الطِّينُ مُمَازِجَهُ، فَمِنْ صَفَا نُورِهِ فِي نَفْسِهِ أَنْ يُرِيَكَ مَا فِي قَعْرِهِ. قَالَ: وَهَكَذَا إِذَا صَفَا انْظُرْ مَا فِي قَرَارِ الْمَاءِ وَهُوَ سِيَّمَا فِي أَلْفَاظِ الْعَرَبِ أَيْقَنَ يَعْنِي صَفَاءً، فَرَأَى وَسَكَنَ عِنْدَ اسْتِغْلَالِهِ لِنَفْسِهِ مَنِ الَّذِي قَدْ كَانَ مَازَجَهُ وَتَرَاخَى مُمَازِجُهُ - أَعْنِي الطِّينَ - حَتَّى سَدَّ حُجْرَةً كَانَتْ فِي أَرْضِ الْمَغِيضِ، وَهَكَذَا يَا فَتًى، الْمَعْرِفَةُ إِذَا سَكَنَتْ فِي الْقَلْبِ وَتَمَكَّنَتْ بِالتَّصْدِيقِ وَالثِّقَةِ مِنْهُ تَرَاخَتْ مِنْهَا عُلُومٌ مُؤَكِّدَةٌ فَسَدَّتْ خُرُوقَ الْقَلْبِ الَّتِي كَانَتِ الْآفَاتُ وَالْوَسْوَاسُ فَنَقَلَ الْمَعْرِفَةَ مِنْهَا. قَالَ، خَبِّرْنِي يَا فَتًى عَنِ الْمَاءِ الْأَوَّلِ ⦗٣٠٣⦘ كَانَ يَصْلُحُ فِي وَقْتِ سَيْلِهِ إِلَى مَغِيضِهِ أَنْ يُشْرَبَ مِنْهُ؟ قُلْتُ: لَا، قَالَ: وَكَذَا الْمَعْرِفَةُ إِذَا لَمْ تَكُنْ مُتَيَّقَنَةٌ صَافِيَةٌ لَمْ تَصْلُحْ لِشُرْبِ الْعُقُولِ مِنْهَا، يَا فَتًى خَبِّرْنِي هَلْ عَلِمْتَ مِثْلِي؟ قُلْتُ: لَا، قَالَ: رَأَيْتُ الْعُلَمَاءَ مَزَجُوا عِلْمَهُمْ بِحُبِّ الدُّنْيَا فَلَمْ يَصْلُحْ عِلْمُهُمْ لِعَطَشِ الْعُقَلَاءِ. يَا فَتًى خَبِّرْنِي عَنِ الْمَاءِ مِنَ الَّذِي صَفَّاهُ وَرَوَّقَهُ وَأَقَلَّهُ حَتَّى اسْتَقَلَّ فِي نَفْسِهِ عَنِ الَّذِي كَانَ مَازَجَهُ؟ قُلْتُ: هُوَ اسْتَقَلَّ بِنَفْسِهِ عَنِ الَّذِيٍ قَدْ كَانَ مَازَجَهُ. قَالَ: وَهَكَذَا الْعَالِمُ الدَّلِيلُ إِذَا عَلِمَ وَدَلَّ لَمْ يَدُلَّهُ عَلَى مَوْلَاهُ غَيْرُهُ بَلْ عِلْمُهُ فَإِذَا تَرَكَ دَلَالَةَ نَفْسِهِ لَمْ تَصْلُحْ دَلَالَتُهُ لِغَيْرِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ " أَسْنَدَ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنِ الْأَعْلَامِ وَالْأَثْبَاتِ

<<  <  ج: ص:  >  >>