للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

قَالَ: وَحَدَّثَنِي الْحُسَيْنُ بْنُ أَحْمَدَ الشَّامِيُّ قَالَ: سَمِعْتُ ذَا النُّونِ الْمِصْرِيَّ، يَقُولُ: قَرَأْتُ فِي التَّوْرَاةِ أَنَّ الْأَبْرَارَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ وَالَّذِينَ فِي سَبِيلِ خَالِقِهِمْ يَمْشُونَ وَعَلَى طَاعَتِهِ يَقْبِضُونَ أُولَئِكَ إِلَى وَجْهِ الْجَبَّارِ يَنْظُرُونَ فَغَايَةُ أَمَلِ الْآمِلِ الْمُحِبِّ الصَّادِقِ النَّظَرُ إِلَى وَجْهِ اللَّهِ الْكَرِيمِ فَلَا يُنَعِّمُهُمْ فِي مَجْلِسِهِمْ بِشَيْءٍ أَكْبَرَ عِنْدَهُمْ مِنَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِهِ، وَبَلَغَنِي أَنَّهُ يُنَعِّمُهُمْ بَعْدَ النَّظَرِ بِأَصْوَاتِ الرُّوحَانِيِّنَ وَبِتِلَاوَةِ دَاودَ عَلَيْهِ السَّلَامُ الزَّبُورَ فَلَوْ رَأَيْتَ دَاودَ وَقَدْ أَتَى بِمِنْبَرٍ رُفَيْعٍ مِنْ مَنَابِرِ الْجَنَّةِ ثُمَّ أُذِنَ لَهُ أَنْ يَرْقَى وَأَنْ يُسْمِعَ حَمْدَهُ وَثَنَاءَهُ وَقَدْ أَنْصَتَ ⦗٨٣⦘ لَهُ جَمِيعُ أَهْلِ الْجَنَّةِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ وَالرُّوحَانِيِّينَ وَالْمُقَرَّبِينَ ثُمَّ ابْتَدَأَ دَاودُ بِتِلَاوَةِ الزَّبُورِ عَلَى سُكُونِ الْقَلْبِ عِنْدَ حُسْنِ حِفْظِهِ وَتَرْجِيعِهِ وَتَسْكِينِهِ الصَّوْتَ وَحُسْنِ تَقْطِيعِهِ وَقَدْ وُكِّلَ بِهَا زَمْعُهَا وَفَاحَ مِنْهَا طَرَبُهَا وَقَدْ بَدَتِ النَّوَاجِذُ مِنَ الضَّاحِكِينَ بِحَبْرَةِ السُّرُورِ وَأَجَابَ دَاودَ هَوَاءُ الْمَلَكُوتِ وَفُتِحَتْ مَقَاصِيرُ الْقُصُورِ ثُمَّ رَفَعَ دَاودُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ صَوْتِهِ لِيُتِمَّ سُرُورَهُمْ فَلَمَّا أَسْمَعَهُمُ الرَّفِيعَ مِنْ صَوْتِهِ بَرَزَ أَهْلُ عِلِّيِّينَ مِنْ غُرَفِ الْجَنَّةِ وَأَجَابَتْهُ الْحُورُ مِنْ وَرَاءِ سُتْرَاتِ الْخُدُورِ بِمُفْتِنَاتِ النَّغَمِ وَأَطَّتْ رِحَالُ الْمِنْبَرِ، وَاصْطَفَقَتِ الرِّيَاحُ فَزَعْزَعَتِ الْأَشْجَارَ فَتَرَاسَلَتِ الْأَصْوَاتُ وَتَجَاوَبَتِ النَّغَمُ، وَزَادَهُمُ الْمَلِيكُ الْفَهْمَ لِيُتِمَّ مَا بِهِمْ مِنَ النِّعَمِ فَلَوْلَا أَنَّ اللَّهَ كَتَبَ لَهُمْ فِيهَا الْبَقَاءَ لَمَاتُوا فَرَحًا، قُلْتُ: فَهَلْ قَالَتِ الْعُلَمَاءُ فِي صِفَةِ يَوْمِ الزِّيَارَةِ شَيْئًا تَصِفُهُمْ بِهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، اجْتَمَعَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُبَّادِ فَأَتَوْا عَابِدًا فِي بَيْتِهِ فَقَالُوا لَهُ: قُلْ خَيْرًا وَأَوْصِنا بِوَصِيَّةٍ فَقَالَ: اقْطَعُوا الدَّهْرَ إِخْوَتِي بِمُنَاجَاةِ رَبِّكُمْ وَاجْعَلُوا لَكُمْ هَمَّا وَاحِدًا فَهُوَ أَهْنَأُ لِعَيْشِكُمْ قِيلَ لَهُ: فَمَا مِيرَاثُ ذَلِكَ إِذَا نَحْنُ فَعَلْنَاهُ فَقَالَ:

[البحر الخفيف]

تَرِثُوا الْعِزَّ وَالْمُنَى ... وَتَفُوزُوا بِحَظِّكُمْ

فَلَعَمْرِي إِنَّ الْمُلُوكَ ... لَفِي دُونِ مُلْكِكُمْ

قِيلَ لَهُ فَمَتَى نَكُونُ مُلُوكًا فِي الدُّنْيَا أَوْ فِي الْآخِرَةِ فَقَالَ:

إِنَّمَا تُجْعَلُونَ مُلُوكًا ... فِي الْأُخْرَى بِزُهْدِكُمْ

حِينَ يُؤْنِسُكُمُ الْعَزِيزُ ... عَلَى قَدْرِ شُكْرِكُمْ

فَتَكُونُوا فِي الْقُرْبِ مِنْهُ ... عَلَى قَدْرِ حُبِّكُمْ

قَالُوا: فَمَا الَّذِي يَقْطَعُ بِنَا عَنْهُ عَزَّ وَجَلَّ؟ فَقَالَ: لِأَنَّكُمْ تَتَمَادَوْنَ فِي الْمُنَى وَتَنَاسَوْنَ فِعْلَكُمْ وَأَنْتُمْ مَعَ ذَلِكَ تَتَمَنَّوْا أَمَانِيَّ لَيْسَ تَصْلُحُ بِمِثْلِكُمْ وَذَلِكَ أَنَّكُمْ شُغِلْتُمْ عَنِ الْإِلَهِ بِإِصْلَاحِ عَيْشِكُمْ، قَالُوا: فَبِمَ نَسْتَعِينُ عَلَى الطَّاعَةِ؟ قَالَ: بِذِكْرِ حَبِيبِ الْعَابِدِينَ إِنَّكُمْ لَوْ سُقِيتُمْ مِنْ حُبِّهِ مِثْلَ مَا ذَاقَ غَيْرُكُمْ لَنُفِيَ عَنْكُمُ الرُّقَادُ عَلَى طِيبِ فُرُشِكُمْ وَارْتيِاحًا يَقِلُّ عِنْدَ الْمُنَاجَاةِ صُبْرُكُمْ ثُمَّ أَرِمَ سَاعَةً يَعْنِي سَكَتَ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْهِمْ فَقَالَ: إِخْوَتِي لَوْ وَرَدْتُمْ فِي غَدٍ عِنْدَ بَعْثِكُمْ فَوْقَ نُوقٍ مِنَ ⦗٨٤⦘ النَّجَائِبِ مَعَكُمْ نَبِيُّكُمْ لِتَزُورُوا مَاجِدًا وَاحِدًا لَا يَمَلُّكُمْ قَالُوا لَهُ: فَمَا حَالُ الزُّوَّارِ عِنْدَهُ إِذَا قَصَدُوهُ وَتَبَارَكَ اسْمُهُ مَعَهُمْ نَبِيُّهُمْ؟ قَالَ: إِنَّهُمْ حِينَ قَارَبُوهُ تَجَلَّى لِقُرْبِهِمْ فَإِذَا عَايَنُوا الْمَلِيكَ تَقَضَّتْ هُمُومُهُمْ سَمِعُوا كَلَامَهُ وَسَمِعَ كَلَامَهُمْ، قَالُوا: فَمَا عَلَامَةُ مَنْ سَقَاهُ اللَّهُ بِكَأْسِ مَحَبَّتِهِ؟ فَقَالَ: عَلَامَتُهُ أَنْ يَكُونَ عَلِيلَ الْفُؤَادِ بِذِكْرِ الْمَعَادِ بَطِيءَ الْفُتُورِ فِي جَمِيعِ الْأُمُورِ كَثِيرَ الصِّيَامِ شَدِيدَ السِّقَامِ عَفِيفًا كَفِيفًا، قَلْبُهُ فِي الْعَرْشِ جَوَّالٌ وَاللَّهُ مُرَادُهُ فِي كُلِّ الْأَحْوَالِ، قُلْتُ: رَحِمَكَ اللَّهُ مَا أَقْرَبُ مَا يَتَقَرَّبُ بِهِ الْعَبْدُ الْمُحِبُّ إِلَى اللَّهِ؟ قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ: سُئِلَ أَبُو سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيُّ عَنْ أَقْرَبِ مَا يُتَقَرَّبُ بِهِ إِلَيْهِ قَالَ: أَنْ يَطَّلِعَ عَلَى قَلْبِهِ وَهُوَ لَا يُرِيدُ مِنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ غَيْرَهُ فَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ أَقْرَبَ مَا يَتَقَرَّبُ بِهِ الْعَبْدُ إِلَى اللَّهِ كُلُّ عَمَلٍ عَمِلَهُ بِالْإِخْلَاصِ لِلَّهِ وَالْإِشْفَاقِ عَلَيْهِ مِنْ عَدُوِّهِ وَإِنْ قَلَّ ذَلِكَ فَهُوَ الْمَقْبُولُ إِذَا كَانَ عَلَى حَقِيقَةِ التَّقْوَى مَعْمُولًا كَمَا قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: عَمَلٌ صَالِحٌ دَائِمٌ مَعَ التَّقْوَى وَإِنْ قَلَّ، وَكَيْفَ يَقِلُّ مَا يَتَقَبَّلُ؟ وَذَلِكَ أَنَّ الْمُحِبَّ لِلَّهِ هُوَ عَلَى الرُّكْنِ الْأَعْظَمِ مِنَ الْإِيمَانِ الَّذِي يُمْكِنُ أَنْ يَسْتَكِمْلَهُ الْعَبْدُ وَلَا يَحْسُنُ بِهِ ادَّعَاؤُهُ وَهُوَ رُكْنُ الْمَعْرِفَةِ بِالنَّعَمِ وَإِظْهَارِ الشُّكْرِ لِلْمُنْعِمْ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ لِوَلِيٍّ مِنْ أَوْلِيَائِهِ: يَا عَبْدِي أَمَّا زُهْدُكَ فِي الدُّنْيَا فَطَلَبْتَ بِهِ الرَّاحَةَ لِنَفْسِكَ وَأَمَّا انِقْطَاعُكَ إِلَيَّ فَتَعَزَّزْتَ بِي فَهَلْ عَادَيْتَ لِي عَدُوًّا أَوْ وَالَيْتَ لِي وَلِيًّا فَيُخْبِرُكَ أَنَّهُ جَعَلَ الْحُبَّ وَالْبُغْضَ فِيهِ أَعْظَمَ عِنْدَهُ ثَوَابًا مِنَ الزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا وَالِانْقِطَاعِ إِلَيْهِ؟ قُلْتُ لَهُ: صِفْ لِي زُهْدَ الْمُحِبِّينَ وَزُهْدَ الْخَائِفِينَ وَزُهْدَ الْوَرِعِينَ وَزُهْدَ الْمُتَوَكِّلِينَ فَقَالَ: إِنَّ الْعُبَّادَ زَهِدُوا فِي حَلَالِ الدُّنْيَا خَوْفًا مِنْ شِدَّةِ الْحِسَابِ إِذْ سُئِلُوا عَنِ الشُّكْرِ، فَلَمْ يُؤَدُّوا الشُّكْرَ عَلَى قَدْرِ النِّعَمِ، وَفِرْقَةٌ مِنَ الْخَائِفِينَ زَهِدُوا فِي الْحَرَامِ خَوْفًا مِنْ حُلُولِ النِّقْمَةِ فَزُهْدُ الْخَائِفِينَ تَرْكُ الْحَرَامِ الْبَيِّنِ، وَزُهْدُ الْوَرِعِينَ تَرْكُ كُلِّ شُبْهَةٍ، وَزُهْدُ الْمُتَوَكِّلِينَ تَرْكُ الِاضْطِرَابِ فِيمَا قَدْ تَكَفَّلَ بِهِ مِنَ الْمَعَاشِ لِتَصْدِيقِهِمْ بِوَفَاءِ الضَّامِنِ، وَزُهْدِ الْمُحِبِّينَ قَدْ قَالَتْ فِيهِ الْعُلَمَاءِ ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ، فَقَالَتْ فِرْقَةٌ: زُهْدُ الْمُحِبِّ فِي الدُّنْيَا كُلِّهَا فِي حَلَالِهَا وَحَرَامِهَا لِقِلَّتِهَا فِي نَفْسِهِ، وَقَالَتْ ⦗٨٥⦘ فِرْقَةٌ أُخْرَى: زُهْدُ الْمُحِبِّ فِي الْجَنَّةِ دُونَ الدُّنْيَا حَذَرًا مِنْ أَنْ يَقُولَ لَهُ حَبِيبُهُ: يَا مُحِبُّ، أَيَّ شَيْءٍ تَرَكْتَ لِي؟ فَيَقُولُ: تَرَكْتُ لَكَ الدُّنْيَا، فَيَقُولُ: وَمَا قَدْرُ الدُّنْيَا؟ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ قَدْرُهَا جَنَاحُ بَعُوضَةٍ، فَيَلْحَقُهُ مِنَ الْحَيَاءِ مِنَ اللَّهِ أَنْ يَقُولَ لَهُ: تَرَكْتُ لَكَ مَا قَدْرُهُ جَنَاحُ بَعُوضَةٍ وَلَكِنْ تَعْلَمُ يَا رَبِّ أَنِّي لَمْ أَعَبُدْكَ إِلَّا بِثَوَابِ الْجَنَّةِ فَقَطْ لَا أُرِيدُ مِنْكَ غَيْرَ ذَلِكَ، وَمَا الْجَنَّةُ مَعَ ذِكْرِكَ؟ فَزُهْدُ الْمُحِبِّ الصَّادِقِ فِي الدُّنْيَا هُوَ الزُّهْدُ فِي الْإِخْوَانِ الَّذِينَ يُشْغَلُونَ عَنِ اللَّهِ فَقَدْ زَهِدَ فِيهِمْ لِعِلْمِهِ بِمَا يَلْحَقُهُ مِنَ الْآفَاتِ عِنْدَ مُشَاهَدَتِهِمْ فَزُهْدُهُ فِيهِمْ عَلَى عِلْمٍ بِهِمْ "

<<  <  ج: ص:  >  >>