للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ، فِي كِتَابِهِ قَبْلَ أَنْ لَقِيتُهُ، وَحَدَّثَنِي عَنْهُ عُثْمَانُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْعُثْمَانِيُّ، ثنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْرُوقٍ قَالَ: قَالَ الْحَارِثُ بْنُ أَسَدٍ وَسُئِلَ: بِمَ تُحَاسَبُ النَّفْسُ؟ قَالَ: " بِقِيَامِ الْعَقْلِ عَلَى حِرَاسَةِ جِنَايَةِ النَّفْسِ فَيَتَفَقَّدُ زِيَادَتَهَا مِنْ نُقْصَانِهَا فَقِيلَ لَهُ: وَمِمَّ تُولَدُ الْمُحَاسَبَةُ؟ قَالَ: مِنْ مَخَاوِفِ النَّقْصِ وَشَيْنِ الْبَخْسِ وَالرَّغْبَةِ فِي زِيَادَةِ الْأَرْبَاحِ وَالْمُحَاسَبَةُ تُوَرِّثُ الزِّيَادَةَ فِي الْبَصِيرَةِ، وَالْكَيْسُ فِي الْفِطْنَةِ وَالسُّرْعَةِ إِلَى إِثْبَاتِ الْحُجَّةِ وَاتِّسَاعِ الْمَعْرِفَةِ وَكُلُّ ذَلِكَ عَلَى قَدْرِ لُزُومِ الْقَلْبِ لِلتَّفْتِيشِ، فَقِيلَ لَهُ: مِنْ أَيْنَ تُخَلَّفُ الْعُقُولُ وَالْقُلُوبُ عَنْ مُحَاسَبَةِ النُّفُوسِ؟ قَالَ: مِنْ طَرِيقِ غَلَبَةِ الْهَوَى وَالشَّهْوَةِ؛ لِأَنَّ الْهَوَى وَالشَّهْوَةَ يَغْلِبَانِ الْعَقْلَ وَالْعِلْمَ وَالْبَيَانَ، وَسُئِلَ: مِمَّ يِتَوَلَّدُ الصِّدْقُ؟ قَالَ: مِنَ الْمَعْرِفَةِ بِأَنَّ اللَّهَ يَسْمَعُ وَيَرَى وَخَوْفِ السُّؤَالِ عَنْ مَثَاقِيلِ الذَّرِّ مِنْ إِرْسَالِ اللَّفْظِ وَخُلْفِ الْوَعْدِ وَتَأْخِيرِ الضَّمَانِ، فَالْمَعْرِفَةُ أَصْلٌ لِلصِّدْقِ، وَالصِّدْقُ أَصْلٌ لِسَائِرِ أَعْمَالِ الْبِرِّ فَعَلَى قَدْرِ قُوَّةِ الصِّدْقِ يَزْدَادُ الْعَبْدُ فِي سَائِرِ أَعْمَالِ الْبِرِّ ⦗٨٩⦘، وَسُئِلَ عَنِ الشُّكْرِ مَا هُوَ؟ قَالَ: عِلْمُ الْمَرْءِ بِأَنَّ النِّعْمَةُ مِنَ اللَّهِ وَحْدَهُ وَأَنْ لَا نِعْمَةَ عَلَى خَلْقٍ مِنْ أَهْلِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا وَبَدَائِعُهَا مِنَ اللَّهِ فَشَكَرَ اللَّهَ عَنْ نَفْسِهِ، وَعَنْ غَيْرِهِ، فَهَذَا غَايَةُ الشُّكْرِ، وَسُئِلَ عَنِ الصَّبْرِ، قَالَ: هُوَ الْمُقَامُ عَلَى مَا يُرْضِي اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِتَرْكِ الْجَزَعِ وَحَبْسِ النَّفْسِ فِي مَوَاضِعِ الْعُبُودِيَّةِ مَعَ نَفْيِ الْجَزَعِ، فَقِيلَ لَهُ: فَمَا التَّصَبُّرُ؟ قَالَ: حَمْلُ النَّفْسِ عَلَى الْمَكَارِهِ وَتَجَرُّعُ الْمَرَارَاتِ وَتَحَمُّلُ الْمُؤَنِ وَاحْتِمَالُ الْمُكَابَدَاتِ لِتَمْحِيصِ الْجِنَايَاتِ وَقَبُولِ التَّوْبَةِ لِأَنَّ مَطْلَبَ الْمُتَصَبِّرِ تَمْحِيصُ الْجِنَايَاتِ رَجَاءَ الثَّوَابِ وَمَطْلَبَ الصَّابِرِ بُلُوغُ ذُرَى الْغَايَاتِ وَالْمُتَصَبِّرُ يَجِدُ كَثِيرًا مِنَ الْآلَامِ وَالصَّابِرُ سَقَطَ عَنْهُ عَظِيمُ الْمُكَابَدَاتِ لِأَنَّ مَطْلَبَهُ الْعَمَلَ عَلَى الطِّيبَةِ وَالسَّمَاحَةِ لِعِلْمِهِ بِأَنَّ اللَّهَ نَاظِرٌ إِلَيْهِ فِي صَبْرِهِ وَأَنَّهُ يُعِينُهُ وَأَنَّ صَبْرَهُ لِمَوْلَاهُ لَمَا يَرْضَى مَوْلَاهُ عَنْهُ فَاحْتَمَلَ الْمُؤَنَ وَفِيهِ يَقُولُ الْحَكِيمُ:

[البحر الطويل]

رَضِيتُ وَقَدْ أَرْضَى إِذَا كَانَ مَسْخَطِي ... مِنَ الْأَمْرِ مَا فِيهِ رِضَا مَنْ لَهُ الْأَمْرُ

وَأَشْجَيْتُ أَيَّامِي بِصَبْرٍ حَلَوْنَ لِي ... عَوَاقِبُهُ وَالصَّبْرُ مِثْلُ اسْمِهِ صَبْرُ

قِيلَ فَكَيْفَ السَّبِيلُ إِلَى مَقَامِ الرِّضَا؟ قَالَ: عِلْمُ الْقَلْبِ بِأَنَّ الْمَوْلَى عَدْلٌ فِي قَضَائِهِ غَيْرُ مُتَّهَمٍ، وَأَنَّ اخْتِيَارَ اللَّهِ لَهُ خَيْرٌ مِنَ اخْتِيَارِهِ لِنَفْسِهِ فَحِينَئِذٍ أَبْصَرَتِ الْعُقُولُ وَأَيْقَنَتِ الْقُلُوبُ وَعَلِمَتِ النُّفُوسُ وَشَهِدَتْ لَهَا الْعُلُومُ أَنَّ اللَّهَ أَجْرَى بِمَشِيئَتِهِ مَا عَلِمَ أَنَّهُ خَيْرٌ لِعَبْدِهِ فِي اخْتِيَارِهِ وَمَحَبَّتِهِ وَعَلِمَتِ الْقُلُوبُ أَنَّ الْعَدْلَ مِنْ وَاحِدٍ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ فَخَرَسَتِ الْجَوَارِحُ مِنَ الِاعْتِرَاضِ عَلَى مَنْ قَدْ عَلِمَتْ أَنَّهُ عَدْلٌ فِي قَضَائِهِ غَيْرُ مُتَّهَمٍ فِي حُكْمِهِ فَسُرَّ الْقَلْبُ مِنْ قَضَائِهِ. أَخْبَرَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ فِي كِتَابِهِ وَحَدَّثَنِي عَنْهُ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مِقْسَمٍ قَالَ سَمِعْتُ الْجُنَيْدَ بْنَ مُحَمَّدٍ يَقُولُ سَمِعْتُ الْحَارِثَ بْنَ أَسَدٍ يَقُولُ: اعْلَمْ بِأَنَّكَ لَسْتَ بِشَيْءٍ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَيْسَ لَكَ شَيْءٌ إِلَّا مَا نِلْتَ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ وَأَنَّكَ إِنِ اتَّقَيْتَهُ فِي حَقِّهِ وَقَاكَ شَرَّ مَنْ دُونَهُ وَلَا يَصْلُحُ عَبْدٌ إِلَّا أَصْلَحَ اللَّهُ بِصَلَاحِهِ سِوَاهُ، وَلَا يَفْسُدُ عَبْدٌ إِلَّا أَفْسَدَ اللَّهُ بِفَسَادِهِ غَيْرَهُ فَأَعْدَاؤُكَ مِنْ نَفْسِكِ طَبَائِعُكَ السَّيِّئَةُ وَأَوْلِيَاؤُكَ مِنْ نَفْسِكَ طَبَائِعُكَ الْحَسَنَةُ فَقَاتِلْ مَا فِيكَ مِنْ ذَلِكَ بِبُغْضٍ ⦗٩٠⦘ وَقَاتِلِ أَعْدَاءَكَ بَأَوْلِيَائِكَ وَغَضَبَكَ بِحِلْمِكَ وَغَفْلَتَكَ بِتَفَكُّرِكَ وَسَهْوَكَ بِتَنَبُّهِكَ فَإِنَّكَ قَدْ مُنِيتَ وَابْتُلِيتَ مِنْ مَعَانِي طَبَائِعِكَ وَمُكَابَدَةِ هَوَاكَ وَعَلَيْكَ بِالتَّوَاضُعِ فَالْزَمْهُ وَاعْلَمْ أَنَّ لَكَ مِنَ الْعَوْنِ عَلَيْهِ أَنْ تَذْكُرَ الَّذِي أَنْتَ فِيهِ وَالَّذِي تَعُودُ إِلَيْهِ، وَالتَّوَاضُعُ لَهُ وُجُوهٌ شَتَّى فَأَشْرَفُهَا وَأَفْضَلُهَا أَنْ لَا تَرَى لَكَ عَلَى أَحَدٍ فَضْلًا وَكُلُّ مَنْ رَأَيْتَ كُنْ لَهُ بِالضَّمِيرِ وَالْقَلْبِ مُفَضِّلًا وَمَنْ رَأَيْتَ مِنْ أَهْلِ الْخَيْرِ رَجَوْتَ بَرَكَتَهُ وَالْتَمَسْتَ دَعْوَتَهُ وَظَنَنْتَ أَنَّهُ إِنَّمَا يُدْفَعُ عَنْكَ بِهِ فَهَذَا التَّوَاضُعُ الْأَكْبَرُ، وَالتَّوَاضُعُ الَّذِي يَلِيهِ أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ مُتَوَاضِعًا بِقَلْبِهِ مُتَحَبِّبًا إِلَى مَنْ عَرَفَهُ غَيْرَ مُحْتَقِرٍ لِمَنْ خَالَفَهُ وَلَا مُسْتَطِيلًا عَلَى مَنْ هُوَ بِحَضْرَتِهِ وَلَيْسَ بِقَرِيبٍ مِنْهُ، وَأَمَّا التَّوَاضُعُ الثَّالِثُ فَهُوَ اللَّازِمُ لِلْعِبَادِ الْوَاجِبُ عَلَيْهِمُ الَّذِي لَوْ تَرَكُوهُ كَفَرُوا فَالسُّجُودُ لِلَّهِ وَبِذَلِكَ جَاءَ الْحَدِيثُ: «إِنَّهُ مَنْ وَضَعَ جَبْهَتَهُ لِلَّهِ فَقَدْ بَرِئَ مِنَ الْكِبْرِ» وَقَدْ مَنَّ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ عَلَيْنَا وَعَلَيْكُمْ، أَبْلَغَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكُمُ التَّوَاضُعَ الْأَكْبَرَ "

<<  <  ج: ص:  >  >>