أَخْبَرَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ نُصَيْرٍ، فِي كِتَابِهِ , وَحَدَّثَنِي عَنْهُ عُثْمَانُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: سَمِعْتُ الْجُنَيْدَ بْنَ مُحَمَّدٍ، يَقُولُ: سُئِلَ الْحَارِثُ بْنُ أَسَدٍ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة: ٢٣]، وَعَنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ تَوَكَّلْتُمْ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ تَغْدُو خِمَاصًا وَتَرُوحُ بِطَانًا»، مَا السَّبِيلُ أَكْرَمَ اللَّهُ وَجْهَكَ إِلَى هَذَا التَّوَكُّلِ الَّذِي نَدَبَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ إِلَيْهِ؟ صِفْ لِي كَيْفَ هُوَ؟ وَكَيْفَ دُخُولُ النَّاسِ فِيهِ؟ فَقَالَ الْحَارِثُ رَحِمَهُ اللَّهُ: " النَّاسُ يَتَفَاوَتُونَ فِي التَّوَكُّلِ، وَتَوَكُّلُهُمْ عَلَى قَدْرِ إِيمَانِهِمْ وَقُوَّةِ عُلُومِهْمِ، قِيلَ: مَا مَعْنَى قُوَّةِ إِيمَانَهُمْ؟ قَالَ: تَصْدِيقُهُمْ لِلْعِدَةِ وَثِقَتُهُمْ بِالضَّمَانِ، قِيلَ: فَمِنْ أَيْنَ فُضِّلَتِ الْخَاصَّةُ مِنْهُمْ عَلَى الْعَامَّةِ وَالتَّوَكُّلُ فِي اعْتِقَادِ الْإِيمَانِ مَعَ كُلِّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ؟ قَالَ: الَّذِي فُضِّلَتْ بِهِ الْخَاصَّةُ عَلَى الْعَامَّةِ دَوَامُ سُكُونِ الْقَلْبِ عَنِ الِاضْطِرَابِ وَالْهُدُوءُ عَنِ الْحَرَكَةِ فَعِنْدَهَا يَا فَتَى اسْتَرَاحُوا مِنْ عَذَابِ الْحِرْصِ وَفَلُّوا مِنْ أَسْرِ الطَّمَعِ وَخَرَجُوا مِنْ ضِيقِ طُولِ الْأَمَلِ، قِيلَ: فَمَا الَّذِي وَلَّدَ هَذَا؟ قَالَ: حالتانِ: الْأُولَى مِنْهُمَا دَوَامُ لُزُومِ الْقَلْبِ الْمَعْرِفَةَ وَالِاعْتِمَادَ عَلَى اللَّهِ وَتَرْكَ ⦗١٠٤⦘ الْحِيَلِ، وَالثَّانِيَةُ كَثْرَةُ الْمُمَارَسَةُ حَتَّى يَأْلَفَهَا إِلْفًا وَيَخْتَارَهَا اخْتِيَارًا، قِيلَ: فَالتَّوَكُّلُ فِي نَفْسِهِ مَا هُوَ؟ وَمَا مَعْنَاهُ؟ قَالَ: قَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ قِيلَ لَهُ: اخْتَصِرْ مِنْهُ جَوَابًا مُوجَزًا، قَالَ: نِعْمُ التَّوَكُّلُ هُوَ الِاعْتِمَادُ عَلَى اللَّهِ بِإِزَالَةِ الطَّمَعِ مِنْ سِوَى اللَّهِ، وَتَرْكُ تَدْبِيرِ النُّفُوسِ فِي الْأَغْذِيَةِ، وَالِاسْتِغْنَاءُ بِالْكِفَايَةِ، وَمُوَافَقَةُ الْقَلْبِ لِمُرَادِ الرَّبِّ، وَالْقُعُودُ فِي طَلَبِ الْعُبُودِيَّةِ، وَاللَّجْأُ إِلَى اللَّهِ، قِيلَ: فَهَلْ يَلْحَقُ التَّوَكُّلَ الْأَطْمَاعُ؟ قَالْ: تَلْحَقُهُ الْأَطْمَاعُ مِنْ طَرِيقِ الطِّبَاعِ خَطَرَاتٍ، وَلَا يَضُرُّهُ ذَلِكَ شَيْئًا، قِيلَ: فَمَا الَّذِي يُقَوِّيهِ عَلَى إِسْقَاطِ الطَّمَعِ؟ قَالَ: الْيَأْسَ مِمَّا فِي أَيْدِي النَّاسِ حَتَّى يَكُونَ بِمَا مَعَهُ مِنَ الثِّقَةِ بِمَا وَعْدَهُ سَيِّدُهُ أَغْنَى مِمَّنْ يَمْلِكُ الدُّنْيَا بِحَذَافِيرِهَا كَمَا قِيلَ لِأَبِي حَازِمٍ: أَلَكَ مَالٌ؟ قَالَ: أَكْثَرُ الْمَالِ ثِقَتِي بِرَبِّي وَيَأْسِي مِمَّا فِي أَيْدِي النَّاسِ، وَكَانَ أَبُو حَازِمٍ يَقُولُ: الدُّنْيَا شَيْئَانِ شَيْءٌ لِي وَشَيْءٌ لِغَيْرِي فَمَا كَانَ لِي لَوْ طَلَبْتُهُ بِحِيلَةٍ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَمْ يَأْتِنِي قَبْلَ أَجَلِهِ، وَمَا كَانَ لِغَيْرِي لَمْ أَرْجُهُ فِيمَا مَضَى وَلَا أَرْجُوهُ فِيمَا بَقِيَ يُمْنَعُ رِزْقِي مِنْ غَيْرِي كَمَا يُمْنَعُ رِزْقُ غَيْرِي مِنِّي فَفِي أَيِّ هَذَيْنِ أُفْنِي عُمْرِي؟ وَكَانَ بَعْضُهُمْ يَقُولُ:
اتْرُكِ النَّاسَ فَكُلٌّ مُشْغَلَةْ ... قَدْ بَخِلَ النَّاسُ بِمِثْلِ الْخَرْدَلَةْ
لَا تَسَلِ النَّاسَ وَسَلْ مَنْ أَنْتَ لَهْ
قِيلَ: فَمَا الَّذِي يُقَوِّي الْمُتَوَكِّلَ؟ قَالَ: ثَلَاثُ خِصَالٍ، الْأُولَى مِنْهَا حُسْنُ الظَّنِّ بِاللَّهِ، وَالثَّانِيَةُ نَفْيُ التُّهَمِ عَنِ اللَّهِ، وَالثَّالِثَةُ الرِّضَا عَنِ اللَّهِ تَعَالَى فِيمَا جَرَى بِهِ التَّدْبِيرُ لِتَأْخِيرِ الْأَوْقَاتِ وَتَعْجِيلِهَا، قِيلَ: بِمَ تُلْحَقُ هَذِهِ الْمَنْزِلَةُ؟ قَالَ: بِصَفَاءِ الْيَقِينِ وَتَمَامِهِ فَإِنَّ الْيَقِينَ إِذَا تَمَّ سُمِّيَ تَمَامُهُ تَوَكُّلًا، وَهَكَذَا قَالَ ذُو النُّونِ الْمِصْرِيُّ فَهُمْ بِالْحَالَةِ الْعَالِيَةِ وَالْمَقَامِ الشَّرِيفِ كَمَا قَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيُّ لِأَحْمَدَ بْنِ أَبِي الْحَوَارِيِّ: مَا مِنْ حَالَةٍ مِنْ حَالَاتِ الْمُتَعَبِّدِينَ إِلَّا وَشَيْخُكَ هَذَا قَدْ دَخَلَ فِيهَا وَعَرَفَهَا , إِلَّا هَذَا التَّوَكُّلَ الْمُبَارَكَ الَّذِي مَا أَعْرِفُهُ إِلَّا بِمَشَامِّ الرِّيحِ، وَقَالَ ذُو النُّونِ الْمِصْرِيُّ: الْمَقَامَاتُ سَبْعَ عَشْرَةَ مَقَامَةً أَدْنَاهَا الْإِجَابَةُ وَأَعْلَاهَا صِدْقُ التَّوَكُّلِ، قِيلَ: فَمَا أَجْمَلُ مَا تَرَاهُ الْقُلُوبُ فِي بَاطِنِهَا وَيُلْحَقُهَا خَوَاطِرُ الْأَطْمَاعِ؟ ⦗١٠٥⦘ قَالَ: تَنْبِيهًا مِنَ اللَّهِ بِحِرْصِ الْجَوَارِحِ عَنْ إِشَارَةِ الْأَرْوَاحِ فِيمَا طَمِعَتْ حَيَاءً مِنَ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يَرَاهُمْ يَسْتَرِيحُونَ إِلَى غَيْرِهِ، كَمَا قَالَ الْحَكِيمُ: وَمُرِيدُوهُ يَسْتَحْيُونَ أَنْ يَرَاهُمْ يُشِيرُونَ بِالْأَرْوَاحِ نَحْوَ سِوَاهُ قِيلَ: هَذَا فِي الظَّاهِرِ وَالْيَقَظَةِ فَهَلْ لَهُمْ زَاجِرٌ فِي مَنَامَاتِهِمْ عِنْدَ إِشَارَةِ الْأَرْوَاحِ وَمُطَالَعَتِهَا فِي خَطَرَاتِ الْأَطْمَاعِ؟ قَالَ: قَدْ رُوِي عَنِ النُّبَاحِيِّ، قَالَ: طَمِعْتُ يَوْمًا فِي شَيْءٍ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا فَحَمَلَتْنِي عَيْنَايَ وَنِمْتُ فَسَمِعْتُ هاتِفًا فِي مَنَامِي وَهُوَ يَقُولُ: أَوَ يَجْمُلُ يَا فَتَى بِالْحُرِّ الْمُرِيدِ إِذَا وَجَدَ عِنْدَ مَوْلَاهُ كُلَّ مَا يُرِيدُ أَنْ يَرْكَنَ بِقَلْبِهِ إِلَى الْعَبِيدِ؟ فَهُوَ عَزَّ وَجَلَّ يَزْجُرُهُمْ وَيُثَبِّتُهُمْ وَيُرِيهِمْ مَوَاضِعَ الشَّيْنِ وَالْخَلَلِ لِيُعْمَلُوا فِي شِدَّةِ تَمَامِ الْيَقِينِ وَكَثْرَةِ السُّكُونِ وَالِاعْتِمَادِ عَلَيْهِ دُونَ خَلْقِهِ فَتَكُونَ لَهُمُ الزِّيَادَةُ فِي مَقَامِهِمْ وَحُسْنِ اللُّجْأِ فِي افْتِقَارِهِمْ إِلَى سَيِّدِهِمْ فَأْمُرْهُمْ يَا فَتَى عَلَى الِاسْتِوَاءِ، قِيلَ: فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: ٣]؟، قَالَ: أَيْ سَبَبُهُ بِمَعْنَى حَسْبِي مِنْ كُلِّ شَيْءٍ أَنْ أَتَوَكَّلَ عَلَيْهِ، قِيلَ: فَمَا الْأَسْبَابُ الَّتِي تَشِينُ تَوَكُّلَهُ؟ قَالَ: الْأَسْبَابُ الَّتِي فِيهَا الْحِرْصُ وَالْمُكَابَدَةُ عَلَى الدُّنْيَا وَالْأَسْبَابُ الَّتِي تَشْغَلُهُ عَنْ دَوَامِ السُّكُونِ وَتَزِيدُ فِي الِاضْطِرَابِ وَتُقَوِّي خَوْفَ الْفَوْتِ وَهِيَ الْأَسْبَابُ الَّتِي تَسْتَعْبِدُهُ وَتُتْعِبُهُ فَتِلْكَ الَّتِي يُؤْمَرُ بِقَطْعِهَا حَتَّى يَسْتَرِيحَ بِرُوحِ الْيَقِينِ وَيَتَفَرَّجَ بِحَيَاةِ الِاسْتِغْنَاءِ، قِيلَ: فَمَا عَلَامَةُ سُكُونِ الْمُتَوَكِّلِ؟ قَالَ: لَا تُحَرِّكُهُ أَزْعَاجُ الْمُسْتَبْطِئِ فِيمَا ضُمِنَ لَهُ مِنْ رِزْقِ رَبِّهِ وَلَا تُخَلِّفَهُ فَتْرَةُ الْمُتَوَانِي عَنْ فُرْصَتِهِ، قِيلَ: أَيَجِدُ هَذَا فَقْدَ شَيْءٍ مُنِعَهُ؟ قَالَ: لَا يَجِدُ فَقْدَهُ إِذَا مُنِعَهُ لِعِلَّةِ مَعْرِفَتِهِ بِحُسْنِ اخْتِيَارِ اللَّهِ لَهُ أَمَلًا مِنَ اللَّهِ أَنْ يُعَوِّضَهُ فِي حُسْنِ الْعَوَاقِبِ أَفْضَلَ مِنْ إِرَادَتِهِ بِالْعَاجِلِ كَأَنَّهُ يَرَاهُ قَرِيبًا فَمِنْ هَاهُنَا لَا يَجِدُ فَقْدَ شَيْءٍ مُنِعَهُ، قِيلَ: فَمَا يُقَوِّيهِ عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ؟ قَالَ: حُسْنُ عِلْمِهِ بِحُسْنِ تَدْبِيرِ اللَّهِ لَهُ فَعِنْدَهَا أَسْقَطَ عَنْ قَلْبِهِ اخْتِيَارَهُ لِنَفْسِهِ وَرَضِيَ بِمَا اخْتَارَ اللَّهُ لَهُ "
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute