أَخْبَرَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ نُصَيْرٍ، فِي كِتَابِهِ , وَحَدَّثَنِي عَنْهُ عُثْمَانُ قَالَ: سَمِعْتُ الْجُنَيْدَ بْنَ مُحَمَّدٍ، يَقُولُ: سُئِلَ الْحَارِثُ بْنُ أَسَدٍ وَقِيلَ لَهُ: رَحِمَكَ اللَّهُ مَا عَلَامَةُ الْأُنْسِ بِاللَّهِ؟ قَالَ: " التَّوَحُّشُ مِنَ الْخَلْقِ، قِيلَ لَهُ: فَمَا عَلَامَةُ التَّوَحُّشِ مِنَ الْخَلْقِ؟ قَالَ: الْفِرَارُ إِلَى مَوَاطِنِ الْخَلَوَاتِ وَالتَّفَرُّدُ بِعُذُوبَةِ الذِّكْرِ فَعَلَى قَدْرِ مَا يَدْخُلُ الْقَلْبَ مِنَ الْأُنْسِ بِذِكْرِ اللَّهِ يَخْرُجُ التَّوَحُّشُ كَمَا قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ فِي مُنَاجَاتِهِ: يَا مَنْ آنَسَنِي بِذِكْرِهِ وَأَوْحَشَنِي مِنْ خَلْقِهِ، وَكَانَ عِنْدَ مَسَرَّتِي ارْحَمْ عَبْرَتِي، وَفِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى لِدَاودَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: كُنْ بِي مُسْتَأْنِسًا وَمِنْ ⦗١٠٨⦘ سِوَايَ مُسْتَوْحِشًا ". وَقِيلَ لِبَعْضِ الْمُتَعَبِّدِينَ: مَا فَعَلَ فُلَانٌ؟ قَالَ: أَنِسَ فَتَوَحَّشَ، وَقِيلَ لِرَابِعَةَ: بِمَ نِلْتِ هَذِهِ الْمَنْزِلَةَ؟ قَالَتْ: بِتَرْكِي مَا لَا يَعْنِينِي وَأُنْسِي بِمَنْ لَمْ يَزَلْ يُوَالِنِي، وَقَالَ ذُو النُّونِ فِي بَعْضِ كَلَامِهِ: يَا أَنِيسَ كُلِّ مُنْفَرِدٍ بِذِكْرِكَ، وَجَلِيسَ كُلِّ مُتَوَحِّدٍ بِحُبِّكَ، وَقَالَ عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زَيْدٍ لرَاهِبٍ: يَا رَاهِبُ لَقَدْ تَعَجَّلْتَ الْوَحْدَةَ، فَقَالَ الرَّاهِبُ: يَا فَتَى لَوْ ذُقْتَ حَلَاوَةَ الْوَحْدَةِ لَاسْتَوْحَشْتَ إِلَيْهَا مِنْ نَفْسِكِ، الْوَحْدَةُ رَأْسُ الْعِبَادَةِ مَا آنَسَتْهَا الْفِكْرَةَ، قَالَ: يَا رَاهِبُ، مَا أَقَلُّ مَا يَجِدُ الْعَبْدُ فِي الْوَحْدَةِ؟ قَالَ: الرَّاحَةُ مِنْ مُدَارَاةِ النَّاسِ وَالسَّلَامَةُ مِنْ شَرِّهِمْ , قَالَ: يَا رَاهِبُ، مَتَى يَذُوقُ الْعَبْدُ حَلَاوَةَ الْأُنْسِ بِاللَّهِ؟ قَالَ: إِذَا صَفَا الْوُدُّ وَخَلُصَتِ الْمُعَامَلَةُ، قَالَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ مَتَى يَصْفُو الْوُدُّ؟ قَالَ: إِذَا اجْتَمَعَ الْهَمُّ فَصَارَ فِي الطَّاعَةِ، قُلْتُ: مَتَى تَخْلُصُ الْمُعَامَلَةُ؟ قَالَ: إِذَا اجْتَمَعَ الْهَمُّ فَصَارَ هَمًّا وَاحِدًا، وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: عَجَبًا لِلْخَلَائِقِ كَيْفَ أَرَادُوا بِكَ بَدَلًا؟ وَعَجَبًا لِلْقُلُوبِ كَيْفَ اسْتَأْنَسَتِ بِسِوَاكَ عَنْكَ؟ اللَّهُمَّ آنَسْتَ الْآنِسِينَ مِنْ أَوْلِيَائِكِ وَخَصَصْتَهُمْ بِكِفَايَةِ الْمُتَوَكِّلِينَ عَلَيْكَ تُشَاهِدُهُمْ فِي ضَمَائِرِهِمْ وَتَطَّلِعُ عَلَيْهِمْ فِي سَرَائِرِهِمْ وَسِتْرِي عِنْدَكَ مَكْشُوفٌ وَأَنَا إِلَيْكَ مَلْهُوفٌ فَإِذَا أَوْحَشَتْنِي الْعُزْلَةُ آنَسَنِي ذِكْرُكَ وَإِذَا كَثُرَتْ عَلَيَّ الْهُمُومُ رَجَعْتُ إِلَى الِاسْتِجَارَةِ بِكَ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ، وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ: جِئْتُ مِنْ أُنْسِ الرَّحْمَنِ، وَكَمَا قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: لَوْ أَنَّ مَعِي أُنْسًا لَتَوَحَّشْتُ، قِيلَ: رَحِمَكَ اللَّهُ فَمَا عَلَامَةُ صِحَّةِ الْأُنْسِ بِاللَّهِ؟ قَالَ: ضِيقُ الصَّدْرِ مِنْ مُعَاشَرَةِ الْخَلْقِ وَالتَّبَرُّمُ بِهِمْ وَاخْتِيَارُ الْقَلْبِ عُذُوبَةَ الذِّكْرِ , قِيلَ: رَحِمَكَ اللَّهُ فَمَا عَلَامَتُهُ فِي ظَاهِرِهِ؟ قَالَ: مُنْفَرِدٌ فِي جَمَاعَةٍ وَمُسْتَجْمِعٌ فِي خَلْوَةٍ وَغَرِيبٌ فِي حَضَرٍ وَحَاضِرٌ فِي سَفَرٍ وَشَاهِدٌ فِي غَيْبَةٍ وَغَائِبٌ فِي حُضُورٍ، قِيلَ: اشْرَحْ عَنْ وَصْفِ هَذَا مَا مَعْنَى مُنْفَرِدٍ فِي جَمَاعَةٍ وَمُسْتَجْمِعٍ فِي خَلْوَةٍ؟ قَالَ: مُنْفَرِدٌ بِالذِّكْرِ مَشْغُولٌ بِالْفِكْرِ لِمَا اسْتَوْلَى عَلَى الْقَلْبِ وَالْهَمِّ مِنَ الشُّغْلِ وَطِيبِ عُذُوبَةِ الذِّكْرِ وَحَلَاوَتِهِ وَهُوَ مُنْفَرِدٌ فِيمَا هُوَ فِيهِ مِنَ الْجَمَاعَةِ وَهُوَ شَاهِدٌ مَعَهُمْ بِبَدَنِهِ كَمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، فِي حَدِيثِ كُهَيْلِ بْنِ زِيَادٍ فَقَالَ: هَجَمَ بِهِمُ الْعِلْمُ عَنْ حَقِيقَةِ الْأَمْرِ فَبَاشَرُوا ⦗١٠٩⦘ رُوحَ الْيَقِينِ فَاسْتَلَانُوا مَا اسْتَوْعَدَهُ الْمُتْرَفُونَ وَأَنِسُوا بِمَا اسْتَوْحَشَ مِنْهُ الْجَاهِلُونَ صَحِبُوا الدُّنْيَا بِأَبْدَانٍ قُلُوبُهَا مُعَلَّقَةٌ بِالْمَحَلِّ الْأَعْلَى وَبِأَعْلَى الْعُلَى عِنْدَ الْمَلِكِ الْعَالِي فَهَذِهِ صِفَةُ الْمُنْفَرِدِ فِي جَمَاعَةٍ، قِيلَ: فَمَا الْمُسْتَجْمِعُ فِي خَلْوَةٍ؟ قَالَ: مُسْتَجْمِعٌ لَهُ بِهِمَّةٍ قَدْ جَمَعَ الْهُمُومَ فَصَيَّرَهَا هَمًّا وَاحِدًا فِي قَلْبِهِ فَاسْتَجْمَعَتْ لَهُ الْهُمُومُ فِي مُشَاهَدَةِ الِاعْتِبَارِ وَحُسْنِ الْفِكْرِ فِي نَفَاذِ الْقُدْرَةِ فَهُوَ مُسْتَجْمِعٌ لِلَّهِ بِعَقْلِهِ وَقَلْبِهِ وَهَمِّهِ وَوَهْمِهِ كُلِّهِ، وَكُلُّ جَوَارِحِهِ مُسْتَجْمَعَةٌ مُنْتَصِبَةٌ لِدَوَامِ الذِّكْرِ إِلَى وُجُودِ لُحُوقِ الْبَصِيرَةِ وَعِوَضِ الْفِطْنَةِ وَسَعَةِ الْمَعُونَةِ وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْهُ مُتَفَرِّقًا وَلَا وَهْمٌ مُعَطَّلًا وَهَذِهِ صِفَةُ الْمُسْتَجْمِعِ فِي انْفِرَادِهِ، قِيلَ: فَمَا مَعْنَى غَائِبٍ فِي حُضُورٍ؟ قَالَ: غَائِبٌ بِوَهْمِهِ حَاضِرٌ بِقَلْبِهِ فَمَعْنَى غَائِبٍ أَيْ غَائِبٌ عَنْ أبَصْارِ النَّاظِرِينَ حَاضِرٌ بِقَلْبِهِ فِي مُرَاعَاةِ الْعَارِفِينَ "
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute