أَخْبَرَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ نُصَيْرٍ، فِي كِتَابِهِ , وَحَدَّثَنِي عَنْهُ أَبُو عَمْرٍو الْعُثْمَانِيُّ قَالَ: سَمِعْتُ رُوَيْمَ بْنَ أَحْمَدَ الْمُقْرِئَ، يَقُولُ: " لَمَّا رَأَيْتُ الطَّالِبِينَ قَدْ تَحَيَّرُوا وَالْمُرِيدِينَ قَدْ فَتُرُوا وَالْمُتَعَبِّدِينَ وَالْعُلَمَاءَ بِمَا غَلَبَ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانِ الْهَوَى قَدْ سَكِرُوا لَمَّا رَأَوُا الْمُنْتَسِبِينَ إِلَى عِلْمِ الْمَعْرِفَةِ عَلَى طَبَقَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ وَمَقَامَاتٍ مُتَفَاوِتَةٍ مِنَ اسْتِصْغَارِ الْأَحْوَالِ وَأَهْلِهَا وَالتَّرَاخِي عَنِ الْأَعْمَالِ وَالْإِعْرَاضِ عَنْهَا تَسَوَّرُوا عَلَى ذُرًى قَصُرَتْ عَنْهَا مَقَامَاتُهُمْ عَجْزًا عَنْ بُلُوغِهَا وَاغْتِرَارًا بِمَا سَمِعُوهُ مِنْ عُلُوِّهَا احْتَجْتُ أَنْ، أَعْلَمَ السَّبَبَ الَّذِي أَوْقَعَهُمْ فِي هَذِهِ الشُّبْهَةِ وَأَوْقَفَهُمْ فِي هَذِهِ الْمَنْزِلَةِ قَبْلَ أَوَانِهَا وَالِاسْتِحَقَارِ لِلنُّزُولِ فِيهَا قَبْلَ حِينِهَا فَرَأَيْتُهُ سَبَبَيْنِ كُلُّ سَبَبٍ مِنْهُمَا عَلَى أَصْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا اسْتِعْجَالُ الْمَنْزِلَةِ قَبْلَ وَقْتِهَا عَجْزًا عَمَّا عَمِلَ فِيهِ الصَّادِقُونَ وَبَذَلَهُ الْمُحَقِّقُونَ، وَالْآخَرُ الْجَهْلُ بِطَرِيقِ السَّالِكِينَ إِلَيْهَا، وَإِغْفَالُ التَّقْوَى عَمَّا لَهَا وَعَلَيْهَا، رَضِيَ مِنْهُمْ بِاسْمٍ لَا حَقِيقَةَ تَحْتَهُ تَأْوِيهِمْ وَلَا مَكَانَ مِنْهُ يُغْنِيهِمْ، فَلَمَّا رَأَيْتُ ذَلِكَ مِنْ أَمْرِهِمْ دَعَانِي دَاعٍ إِلَى التَّبْيِينِ لِأُمُورِهِمْ وَالنِّدَاءِ لِمَنْ سَمِعَ مِنْهُمْ وَالْكَشْفِ عَنْ سَبَبِهِمْ وَالتَّحْذِيرِ عَنْ مِثْلِ غِرَّتِهِمْ وَمِنْ أَيْنَ أَتَوْا؟ وَعَلَى مَاذَا عَوَّلُوا؟ وَبِمَاذَا تَعَلَّقُوا فِيمَا إِلَيْهِ ذَهَبُوا فَنَقَّبْتُ عَنْ سَرَائِرَهُمْ، بِالْمُسَاءَلَةِ لِكُبَرَائِهِمْ وَالْمُبَاحَثَةِ لِأَئِمَّتِهِمْ فِي تَكْوِينِ الْمُكَوِّنَاتِ عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي الْأُصُولِ وَالْمَقَامَاتِ عَلَى أَصْلَيْنِ عَظِيمَيْنِ تُمْسِكُ كُلُّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ بِأَصْلٍ، فَفِرْقَةٌ قَالَتْ: لَمَّا رَأَيْتُ كُلَّ حَادِثَةٍ تَحْتَ الْكَوْنِ مِنَ الْأَفْعَالِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْأَجْسَامِ ⦗٢٩٨⦘ وَالْأَعْرَاضِ لَا تَخْلُوَ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا مُحْدَثٌ ظَهَرَ إِلَى الْكَوْنِ بِغَيْرِ عِلَّةٍ وَلَا سَبَبٍ جَعَلَهُ مُقَدِّمًا لِإِجْرَائِهِ فَيَكُونُ ذَلِكَ الْمُحْدَثُ عَنْهُ أَوْ يَكُونُ حَدَثُهَا ظَهَرَ عَنْ عِلَّةٍ وَسَبَبٍ تَقَدَّمَهَا فَرَأَيْتُ مَدَارَ قَوْلِ هَذِهِ الْفِرْقَةِ فِيمَا بِهِ تَعَلَّقَتْ وَإِلَيْهِ رَجَعَتْ أَنَّ الْمُخْتَرَعَاتِ أَفْعَالُهَا وَأَقْوَالُهَا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ فَلَمْ أَدْفَعِ الْأَصْلَ فِيمَا إِلَيْهِ أَشَارَتْ، وَدَخَلَتِ الشُّبْهَةُ عَلَيْهِمْ إِذْ لَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ مَا أَحْدَثَهُ الْمُحْدِثُ مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَالْهُدَى لِمَنِ اهْتَدَى وَالْغَيِّ لِمَنْ غَوَى فَدَخَلَتْ عَلَيْهِمْ هَذِهِ الْعِلَّةُ الْجَامِعَةُ مِنَ الْمُخْتَلِفَاتِ مِنْ أَفْعَالِهِ الْمُحْدَثَاتِ بَيْنَ ذَوَاتِهَا وَهَيْئَاتِهَا وَالْعَذْبِ الْفُرَاتِ وَالْمِلْحِ الْأُجَاجِ وَالْحَسَنِ وَالْقَبِيحِ وَالْعَدْلِ وَالْجَوْرِ وَالْخَبِيثِ وَالطِّيبِ، وَمَا فَرَّقَ بَيْنَ ذَلِكَ إِذْ يَقُولُ: {وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ} [الفرقان: ٥٣] سَائِغٌ شَرَابُهُ {وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ} [فاطر: ١٢]، وَقَالَ: {هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ} [الأنعام: ٥٠]، وَقَالَ: {أَوَ مَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام: ١٢٢]؟، وَقَالَ: {مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ، هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا} [هود: ٢٤]، وَقَالَ: {لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطِّيبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ} [المائدة: ١٠٠]، فَرَأَيْتُ اللَّهَ وَإِنْ كَانَ هُوَ مُنْشِئُ الْأَشْيَاءِ بِسَبَبٍ وَبِغَيْرِ سَبَبٍ قَدْ فَضَّلَ خَلْقَهُ بَيْنَ مُنْشَآتِهِ وَبَيَّنَ ذَلِكَ فِي آيَاتِهِ فَذَهَبَ عَلَى هَذِهِ الْفِرْقَةِ مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَ الْأَشْيَاءِ عَلَى بَعْضٍ، وَكُلُّ ذَلِكَ بِأَمْرِهِ قَدْ نَفَذَ فِيهِ حُكْمُهُ وَبَرِئَ مِنْ عَارِهِ وَإِثْمِهِ وَغَابَ عَنْهَا إِحْدَاثُ اللَّهِ لِلْخَلْقِ عَلَى طَبَائِعَ مُخْتَلِفَةٍ وَدَوَاعٍ مُتَبَايِنَةٍ، إِذْ طَبْعُ النُّفُوسِ أَرَضِيَّةً بَشَرِيَّةٌ مُطَالِبَةٌ بِحَاجَاتِهَا وَشَهَوَاتِهَا وَطَبْعُ الرُّوحِ نُزْهَةٌ تُطَالِبُ بِصَفَائِهَا وَتَقْتَضِي شَرَفَ عُلُوِّهَا، وَجَعَلَ الْعَقْلَ سِرَاجًا بَيْنَهُمَا كُلٌّ يُنَازِعُهُ وَيَجْذِبُهُ إِلَيْهِ لِيَسْتَعِينَ بِهِ فِيمَا يَطْلُبُهُ مِنْ حَظِّهِ فَمَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ مِنْهَا أَدَّاهُ ذَلِكَ إِلَى مِلْكِ الْقَلْبِ فَمَتَى مَلَكَ الْقَلْبَ أَحَدُهُمَا فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ تَأْثِيرُ الْعَقْلِ انْقَادَتْ لَهُ الْجَوَارِحُ، ثُمَّ رَأَيْتُ النَّفْسَ وَإِنْ كَانَ طَبْعُهَا الْعَاجِلَةَ فِي فِعْلِ ذَلِكَ بِهَا تَأْثِيرًا لَهَا وَمَا طُبِعَ عَلَيْهِ مِنْ قَبُولِ الِانْفِعَالِ، وَكَذَلِكَ لِلرُّوحِ تَأْثِيرُ انْفَعَالِهَا فِيمَا فَعَلَ فِيهِ، وَرَأَيْتُ سُلْطَانَ النَّفْسِ الْهَوَى وَوَزِيرَهَا الْجَهْلَ وَفِعْلَهَا الْجَوْرَ، وَرَأَيْتُ ذَلِكَ كُلَّهُ وَإِنْ كَانَ فِي قَبْضَةِ التَّدْبِيرِ وَسُلْطَانِ الْقَهْرِ خَارِجًا مِنَ الْجَبْرِ ⦗٢٩٩⦘ مُمَكِّنًا مِنَ النَّظَرِ وَالتَّصَفُّحِ وَالْإِقْدَامِ وَالْإِحْجَامِ سَبَبًا لِلْبَلَاءِ وَمُجْرًي لِلِاخْتِبَارِ الْمُوجِبِ لِلْوِلَايَةِ الْمُظْهِرِ لِلْعَدَاوَةِ، ثُمَّ رَأَيْتُ الْمَقَامَاتِ فِي ذَلِكَ مُخْتَلِفَةً وَالْأَحْوَالَ مُتَبَايِنَةً وَالْمَعَارِفَ مُتَفَاوِتَةً، فَمِنْ بَيْنَ مُقَصِّرٍ قَدْ أَحَاطَتْ بِهِ رُؤْيَةُ التَّقْصِيرِ وَاعْتَرَفَ بِتَخَلُّفِهِ وَأَزْرَى عَلَى نَفْسِهِ، وَبَيْنَ سَابِقٍ قَدْ بَذَلَ فِي الْعِبَادَةِ لِلَّهِ جَهَدَهُ فَلَمْ يَبْلُغْ مِنْ ذَلِكَ إِرْبَهُ مُتَعَلِّقٍ بِعِبَادَتِهِ نَاظِرٍ إِلَى مُجَاهَدَتِهِ وَتَحْصِيلِ مُحَاسَبَتِهِ لِنَفْسِهِ، وَآخَرَ مَعَ جَهَدِهِ مَأْخُوذٌ عَنْ أَحْوَالِهِ وَقَدْ وَصَلَ بِهِ آمَالُهُ وَصِدْقُهُ فِي أَعْمَالِهِ وَأَخْلَصَ فِي قَصْدِهِ وَاسْتَفْرَغَ جَهَدَهُ فَبَلَغَ مِنْ ذَلِكَ حَظَّهُ فَأَعْرَضْتُ عَنْ ذِكْرِ هَؤُلَاءِ أَجْمَعِينَ وَفِرْقَةٌ أُخْرَى مِنَ الْعَارِفِينَ أَشْرَفْتُ عَلَى عَجَائِبِهِمْ فِي مَقَامَاتِهِمْ وَعَظِيمِ طُرُقِهِمْ فِي سَيْرِهِمْ وَسِيَرِهِمْ وَقَطْعِ مَفَاوِزِهِمْ فِي تِيهِ مَضَلَّةِ الْعُقُولِ وَتَنَسُّمِ عِقَابِ الْحَيْرَةِ وَقَطْعِ لُجَّةِ الْهَلَكَةِ وَصِرَاطِ الِاسْتِقَامَةِ فَرَأَيْتُهُمْ بِعَيْنٍ لَا يَسْتَتِرُ عَنْهَا مُتَوَارٍ فِي حِجَابِهِ قَدْ خُدِعَ الْمَغْرُورُ مِنْهُمْ بِمَكَانِهِ فَمِنْ بَيْنِ صَرِيعٍ تَحْتَ إِشَارَتِهِ فِي بَحْرٍ عَمِيقٍ بَيْنَ عِلْمِ الْجَمْعِ وَالتَّفْرِيقِ، فَرَأَيْتُهُ أَسْوَأَ حَالًا مِمَّنْ خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ وَفِرْقَةٌ أُخْرَى قَدْ أَنِسَ بِالْفَنَاءِ فِي مَكَانِهِ وَاسْتَبْطَنَ الْبَقَاءَ مَعَ أَهْلِ زَمَانِهِ فَلَا هُوَ بِعِلْمِ الْفِنَاءِ يَقُومُ، وَلَا عَلَى رُوحِ الْبَقَاءِ يَدُومُ فَعَمَّهُ فِي طُغْيَانِهِ وَلَمْ تَخْتَلِفْ عَلَيْهِ أَحْكَامُهُ وَلَمْ يعْرَفِ الْحَقَّ مِنَ الْبَاطِلِ وَلَا فَرَّقَ بَيْنَ الْمَخْلُوقِ وَالْخَالِقِ وَلَا الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ وَلَا الْفِعْلِ مِنَ الِانْفِعَالِ وَلَا تَمَيَّزَ لَهُ الظَّاهِرُ مِنَ الْبَاطِنِ وَلَا الْعَاجِزُ مِنَ الْقَادِرِ فَكَانَ كَمَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ وَفِرْقَةٌ مِنْهُمْ رَأَتْ أَنَّهُ مُكِّنَ فِي مَقَامِهِ وَلَاحَتْ لَهُ الْأَحْكَامُ فَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ لَهَا مَكَانٌ إِلَّا مَا عُلِّقَ مِنْهَا عَلَى الْخَلْقِ وَإِنَّمَا كَانَتِ الْأَحْكَامُ عِنْدَهُمْ مُعَلَّقَةً عَلَى الْخَلْقِ لِرُؤْيَةِ آثَارِهِمْ وَحُضُورِ إِرَادَاتِهِمْ وَاخْتِلَافِ أَحْوَالِهِمْ وَالْمُشَاهَدَةِ مِنْهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَيْنِ عَقْلٍ مَتِينٍ وَهَوًى مَائِلٍ؛ فَلِذَلِكَ عُلِّقَ عَلَيْهِمْ لَأَمْرِهِ عِنْدَهُمْ وَقُصِدُوا بِالنَّهْيِ وَبُعِثَتْ إِلَيْهِمُ الرُّسُلُ فَتَمَكَّنَ مِنْهُمُ الْجَهْلُ وَاسْتَوْثَقَ مِنْهُمُ الْعَجَبُ فَلَمْ يُمْكِنْ ⦗٣٠٠⦘ فِيهَا عِلَاجُ الْعُلَمَاءِ وَلَمْ يَصِلْ إِلَيْهَا لَطِيفُ حِكْمَةِ الْحُكَمَاءِ، لِتَعَلُّقِهِمْ بِفَقْدٍ مِنَ الْوَجْدِ وَلَوْ حَلَّتْ مِنْ وُجُودِ الْحَقِّ هَذَا الْمَحَلَّ لَأَجْرَتِ الْأَحْكَامَ مَجَارِيَهَا وَسَلِمَتْ مِنْ سَكْرَةِ الْمَعْرِفَةِ وَدَوَاهِيهَا وَأَمَّا الْفِرْقَةُ الَّتِي عَلَتْ بِهَا الْإِشَارَةُ إِلَى عِلْمِ التَّوْحِيدِ فَهُمُ الَّذِينَ صَحِبُوا الْأَحْوَالَ فِي أَوْقَاتِهَا بِالْوَفَاءِ، وَالْأَعْمَالَ بِالْإِخْلَاصِ وَالصَّفَاءِ فَلَمْ يَرْتَقُوا إِلَى مَقَامٍ قَبْلَ إِحْكَامِ الْمَقَامِ قَبْلَهُ وَلَمْ يَتَعَلَّقُوا بِعِلْمٍ لَمْ يَحِلُّوا مِنْهُ مَقَامَ أَهْلِهِ وَيَنْزِلُوهُ نُزُولَ الْمُتَحَقِّقِينَ لَهُ حَتَّى يَعْلُوَ إِلَى غَايَةِ الْأَحْوَالِ الزَّاكِيَةِ وَتَفَقَّهُوا بِعِلْمِهَا إِلَى أَنْ أَدَّاهُمْ ذَلِكَ إِلَى عِلْمِ الْمَعْرِفَةِ فَأَذْعَنُوا لِلَّهِ إِذْعَانَ الْمُحَقِّقِينَ وَهُمْ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ خَالُونَ مِنْهَا بِعَلَاقَةِ الْحَقِّ الَّتِي عَنْهَا نَشَأَتِ الْعُلُومُ الزَّاكِيَةُ غَلَبَتْ عَلَيْهِمُ الْحَقِيقَةُ فِي كُلِّ مَا أَثْبَتَهُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْأَفْعَالِ فَلَمْ يَحِلُّوا مِنْهَا مِنْ مَقَامٍ رَفِيعٍ وَنَفْسٍ مُخْتَلِسَةٍ وَطَبْعٍ مُنْتَزَعٍ إِلَّا بِعَلَاقَةِ الْحَقِيقَةِ الْأَزَلِيَّةِ وَالْعَيْنِ الْأُلُوهِيَّةِ، وَالْعُلُومِ الرَّبَّانِيَّةِ بِمَا مُنِحَتْ فِي ذَلِكَ مِنَ الْقُوَّةِ وَأُعْطِيَتْ فِيهِ مِنَ الصَّفْوَةِ وَتَجْدِيدِ الْوَحْدَانِيَّةِ وَفَنَاءِ الْبَشَرِيَّةِ فَكَانَتِ الْعُلُومُ فِيهِ وَالِاخْتِيَارَاتُ بِتِلْكَ الْعَلَاقَةِ الْمُبِدِيَةِ لِتِلْكَ الْحَقِيقَةِ الَّتِي أَبْدَعَتِ الْحَقَّ فَأَحَقَّتِ الْحَقَّ وَأَبْطَلَتِ الْبَاطِلَ وَبِذَلِكَ أَخْبَرَ اللَّهُ أَوْلِيَاءَهُ إِذْ يَقُولُ: {لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ} [الأنفال: ٨]، وَقَالَ تَعَالَى: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} [الأنبياء: ١٨] فَلَمْ يَتَجَرَّدِ الْحَقُّ عَلَى حَقِيقَةٍ لِوَلِيٍّ مِنْ أَوْلِيَائِهِ وَلَا صَفِيٍّ مِنْ أَصْفِيَائِهِ إِلَّا ظَهَرَ بِهِ عَلَى كُلِّ بَاطِلٍ فَقَهَرَهُ وَدَفَعَهُ وَإِنْ كَانَ الْحَقُّ أَبْدَعَهُ وَاخْتَرَعَهُ فَلَمْ يَكُنِ الْحَقُّ فِي مَكَانٍ فَيَبْقَى فِيهِ أَثَرٌ لِبَاطِلٍ أَوْ سُلْطَانٍ؛ لِأَنَّ مَنْ أَفْنَى الْحَقُّ حَرَكَاتِهِ الْبَشَرِيَّةَ وَنَفْسَهُ الطَّبِيعِيَّةَ وَأَهْوَاءَهُ النَّفْسَانِيَّةَ وَأَوْهَامَهُ الْآرَائِيَّةَ اسْتَوْلى عَلَيْهِ مِنَ الْحَقِيقَةِ الَّتِي عَنَى عَنْهَا وَبِهَا كَانَ التَّصَرُّفُ وَالِاخْتِيَارُ وَالْإِقْدَامُ وَالْإِحْجَامُ وَالسُّكُونُ وَالْحَرَكَاتُ فَلَهُ عَلَامَةٌ مُوجِبَةٌ بِصِحَّةِ مَقَامِهِ وَعُلُوِّ شَأْنِهِ لَا يَخْتَلِفُ عَلَيْهِ مِنَ الْأَفْعَالِ وَلَا تَضْطَرِبُ عَلَيْهِ الْأَقْوَالُ وَلَا تَتَفَاوَتُ مِنْهُ الْأَفْعَالُ كَاخْتِلَافِهَا عَلَى مَنْ بَقِيَتْ عَلَيْهِ آثَارُهُ فِي أَفْعَالِهِ وَغَلَبَ هَوَاهُ بَهَاءَهُ فَأَسَرَ عَقْلُهُ جَهْلَهُ فَهُوَ مَغْرُورٌ بِمَا تَعَلَّقَ مِنِ اعْتِقَادِ عُلُومٍ لَمْ يَسَعْهُ بِالنُّزُولِ فِي حَقَائِقَهَا وَلَا تَلْحَظْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ مِمَّا رَوَى مِنْهَا أَهْلُهَا مِنْ عِلْمِ التَّوْحِيدِ وَمَذَاقِ التَّجْرِيدِ وَهُوَ غَيْرُ مُوَحِّدٍ وَطَمِعَ فِي التَّجْرِيدِ وَهُوَ غَيْرُ مُجَرَّدٍ، قَدِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ ⦗٣٠١⦘ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ طَمَعًا فِيمَا لَمْ يَسْعَدْ بِهِ بِحَقِيقَةٍ، هَيْهَاتَ إِنَّ أَهْلَ هَذِهِ الْإِشَارَةِ نَاسٌ لَمْ تَبْقَ لَهُمْ هِمَّةٌ تُومِئُ إِلَى ذِكْرِ فِعْلٍ مَذْمُومٍ دُونَ أَنْ يَجْرِيَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ مِنَ الْعُلُومِ إِذْ كَانَتْ حَرَكَاتُهُمْ عَنِ الْحَقِّ بِالْحَقِّ فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ لَا تَعْتَرِضُهَا خَوَاطِرُ الْبَشَرِيَّةِ وَلَا يَلِيقُ فِيهَا فِعْلُ الْأَفْعَالِ الطَّبِيعِيَّةِ لَا يَقُولُونَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَنْطِقُونَ عَنِ الْهَوَى، بِذَلِكَ، أَخْبَرَنَا عَنِ الْمُصْطَفَى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم: ٤] فَأَمَّا الْفِرْقَةُ الَّتِي اغْتَرَّتْ بِمَا لَمْ تُؤْتَ وَلَمْ تُفَارِقِ الْعِلَلَ الْمُسْتَوْلِيَةِ عَلَيْهِمْ مِنْ حَرَكَاتِ طِبَاعِهِمِ الدَّاعِيَةِ إِلَى حَاجَتِهَا وَشَهَوَاتِهَا فَأُولَئِكَ مَثَلُهُمْ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضُ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف: ٣٦]، وَقَوْلُهُ: فَـ {مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أَوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ} [الأنعام: ٩٣] فَهُمْ رَهَائِنُ أَعْمَالِهِمْ، لَزِمَ كُلَّ عَبْدٍ مِنْهُمِ طَائِرُهُ فِي عُنُقِهِ إِذْ يَقُولُ: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} [الإسراء: ١٣]، الْآيَةَ وَقَالَ: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ} [المدثر: ٣٨]، جَعَلَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكُمْ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ وَهُمْ أَهْلُ الْقُوَّةِ "
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute