وقبل أن ننتقل إلى جانب الشواهد والأمثلة على هذه "اللغة المقالية" بمستوياتها العامة نقول: سل أي محرر "كبير وممارس ومجرب" من الذين قاموا -خلال تاريخهم الثري- بالعمل في مجالات هذه الفنون والأنماط في مجموعها, تجده يقول لك: إنه صحفي نعم، محرر أيضا، ولكنه عندما يجلس إلى تحرير خبر من الأخبار يكون غيره عندما يجلس إلى تحرير "تقرير مصور" ويكون غيره أيضا عندما يجلس إلى تحرير "مقال تعليق" ويكون غيره حتما عندما يجلس إلى تحرير "مقال عمود" أو مقال "يوميات صحفية" هو في الأولى محرر أخبار يكتب بكل الاختصار والتركيز والدقة والسرعة والموضوعية وفي الثانية يسجل ويصف مع لمسة فنية أو بلاغية صحفية, وفي الثالثة دقيق وحذر ومفسر ولكنه في الرابعة والخامسة -العمود واليوميات- يكون أكثر حاجة إلى عنصر "الإبداع التحريري" لأنه يكون أقرب إلى الناس والانفعالات والتصرفات والدموع والضحكات, يكون أقرب إلى القلوب أيضا.
بل إن هذا المحرر نفسه قد يكتب في الصباح خبرا عن معركة صغيرة جرت على حدود بلده، بين أفراد من جيشه الوطني وبين عدو متسلل، يكتبها -خبرا- بكل الدقة والاختصار والموضوعية، مهتما بالوقائع نفسها وما أسفر عنه الاشتباك من نتائج, حتى إذا جلس إلى مكتبه يحرر عموده، قام خلال سطوره بوداع جاره الضابط البطل الشهيد في لغة مؤثرة، وأسلوب يأخذ بنياط القلوب، ودعا إلى تكريمه، وتكريم زملائه وقدم بعض صور شهامته ورجولته من خلال تجربة ذاتية معه, وإن شاء بكاه ورثاه وتوعد عدوه, كل ذلك بينما كان هذا الجار الصديق البطل مجرد سطر في خبر الصباح، معلومة أو حقيقة واحدة, مثل غيره من الحقائق والمعلومات والأسماء، وبصرف النظر عن الروابط المعنوية أو العائلية أيضا.
أي: إنه من الممكن جدا -وما لم يكن كاتب المقال أديبا أو فنانا في الأصل جرى انضمامه إلى أسرة تحرير المقالات بالصحيفة أو المجلة- من الممكن، خاصة في حالة كاتب العمود أو اليوميات الصحفي أصلا، أن تختلف لغته، وأن يختلف مستوى تعبيره في اليوم الواحد، وعلى صفحات العدد الواحد، من مادة لأخرى، ومن فن لفن، ومن نمط إلى آخر وهكذا.
وأضيف إلى ذلك أيضا، أنها ليست اللغة وحدها، وليس الأسلوب وحده، وإنما كل ما يمكن أن يعكس "إنسانية" المحرر، وروحه وحسه "المجتمعي"، وارتباطه