للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

هنا تحرك زائري حركة خفيفة على مقعده، وقال في اهتمام واضح: مثل ماذا؟ فقلت: مثل عبارة وردت في سياق ما يعرضه الكاتب، تقول "إنهم يقولون لماذا تستعبدون الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا"، مع أن هؤلاء الناس قد ولدتهم أمهاتهم مكبلين بقيود من فولاذ، هي قيود الغرائز التي لا حيلة لهم فيها، وقيود الظروف التي ترسم لهم معظم طريق الحياة مقدما" تلك عبارة، وأخرى وجدتها تقول: "لا تنصت إلى من ينصحك بأن تعامل الناس كما تحب أن يعاملوك به، فقد فعلت ذلك ولقيت الوبال، فأنا أحب لنفسي أن يعاملني أصغر صغير وكأننا متساويان في الصغر، أو متساويان في الكبر إذا أردت فعاملت كبيرا ذات يوم بنبرة في الحديث قد توحي إليه بأننا متساويان صغرا مثل صغري، أو كبرا مثل كبره، فحزن لذلك واغتم وبطش بي بعد ذلك بطش الأشداء لأعرف من هو ومن أنا، وكم تكون المسافة بيننا" وعبارات أخرى في مجالات أخرى، مثل قول الجاحظ في كتاب الحيوان: إن القردة تشبه الإنسان في ظاهر ملامحه وحركاته, ولكنها لا تشبهه في السريرة التي تبعثه على الوفاء, وأما الكلاب فتشبه الإنسان من باطن، إذ تشبهه في بواعث سريرته ولا تشبهه في ملامح وجهه أو حركات بدنه, ولذلك نضحك من القردة؛ لأنها تحاكي الظاهر ولا تحاكي الباطن، ولا نضحك من الكلاب؛ لأنها اختارت الباطن حين حاكت، هذا هو معنى ما ورد عند الجاحظ, وضعته لك في عبارتي؛ لأنني لا أحفظ نص عبارته، وهكذا يا صاحبي فماذا ترى في أقوال كتلك؟

تحرك زائري مرة أخرى في مقعده، وابتسم، لكن حركته هذه المرة لم تكن كسابقتها صادرة عن قلق بل جاءت لتعبر عن طمأنينة، كما لم تكن ابتسامته هذه المرة مصنوعة كسالفتها بل جاءت مطبوعة بطبعة الرضا الودود، ثم قال: لقد صدقت إنها عبارات كاشفة كأنها المصابيح يتوهج الضوء في زجاجها، وهنا رأيته وقد اعتدل في جلسته، مسترخيا هادئا، استرخاء المطمئن وهدوئه، فعرفت أنني مقبل على حلو الحديث، قال:

سأقص عليك قصة، هي -كالعبارات التي ضربت لي أمثلة منها- في ظاهرها من البعد عن المألوف ما يصدم, ولكن فيها كذلك من الحق ما يوقظ؟ فلعلي ذكرت لك مرارا، ذلك الصديق الذي ورث عن أبيه الثراء العريض كما ورث منه كذلك ميلا إلى تحصيل المعرفة تحصيلا دائبا متصلا, ومع ذلك فهو لم يصل عند ذلك التحصيل حد الإشباع، إن لم يكن قد زاده نهما، وهو الصديق الذي قلت عنه أنه دائم السفر، لا يستريح

<<  <   >  >>