من رحلة إلا ليأخذ أهبته, ويعد عدته إلى رحلة أخرى، في كل مرة يعود إلي بزاد وفير، عما رآه وسمعه في طول أرض الله وعرضها، ولقد جاءني هذه المرة بأغرب ما يروى وربما كان كذلك أصدق ما يروى في دلالته الخافية لا في صورته الظاهرة.
زعم لي أنه مر بإحدى الجزر المجهولة في الجزء الجنوبي من المحيط الهادي، ذكر لي اسمها، لكني نسيته؛ لأنه مما ينسى لطوله وكثرة أجزائه، وأهل تلك الجزيرة -كما روى لي- يرتدون ثيابا غريبة لكن الطيبة تشع نورا هادئا من وجوهم السمحة، وعيونهم الوديعة ويبدو أن الجزيرة غنية بطيباتها مما يتيح لأهلها فراغا وراحة، ثم ما هو إلا أن سمعوا صاحبي ينطق جملا متقطعة بلغته العربية غير المفهومة لهم، فأدركوا من فورهم أنها هي لغة من جاءهم من الرحالة وأحبهم، وأقام معهم، فأسرعوا به ليلتقي بهذا الزائر الجديد، وإذا بالرجل يمني عربي، استطاب الإقامة فأقام وكان ذلك لصاحبي نعمة هبطت إليه من السماء.
تلازم العربيان: وأخذ الزائر القديم يقص على الوافد الجديد عن أهل الجزيرة أغرب القصص, وكان أغربها عن سلطان الجزيرة الذي يقيم وحده في برج مغلق عليه، أو لعله برج بلا نوافذ وأبواب.
قال اليمني -واسمه حامد- لصديقي الرحالة: منذ بضعة أعوام ضجت هذه الجزيرة الهادئة ضجة اهتز لها كل أبنائها وذلك إثر حادث غريب، امتزج فيه الوهم بالواقع، واختلطت الخرافة بالعلم الصحيح، وكانت نقطة البداية أن رأى السلطان -أو خيل إليه أنه رأى لا في أحلام نومه، بل في عز صحوته، شبحا غريبا- لا ندري كيف وجد طريقه إلى داخل البرج، والبرج مصمت كما ترى وكأن الشبح -فيما نقل عن رواية الرواة- شبحا لرجل، لا كالرجال في عالم الإنسان، فهو أطول من أي رجل رأته العين، وأعرض كتفين، وأغلظ عنقا، ورأسه بلا شعر، وله ثلاثة أعين في وجهه، وعين رابعة في أم رأسه، وأما عيون الوجه فاثنتان في الصدغين والثالثة في جبهته.
فزع السلطان لرؤيته فزعا شديدا، وهم بصرخة المستغيث لولا أن كتمه الشبح بإحدى راحيته قائلا له: لا تخف يا صاحب الجلالة، سوف تجدني صديقا معينا.
- السلطان: من أنت، ومن أين جئت؟
- الشبح: وماذا ينفعك من أكون؟ وماذا يفيدك من أين جئت؟ لكن الذي