للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

قلت: اهدأ قليلا يا أخي، فليس الصياح برهانا ولا اضطراب الأعصاب يزيدنا شيئا في توضيح المعاني سأبين لك الآن كيف أن ما أسميته أنت بخرافة أهل الجزيرة هو في الوقت نفسه تصوير لحياتنا نحن الثقافية اليوم، فلنفرض أن أحدا جاءني وأراد الاستعانة بي في تفسير حلم له رآه في نومه، ثم أخذ يقص علي هذه القصة ذاتها التي رويتها لي عن الجزيرة وأهلها نقلا عن صديقك الرحالة، فكيف كنت لأفسرها، كنت لأقول له شيئا كالآتي: أما الجزيرة الصغيرة النائية، فترمز هنا للعزلة المميتة التي نحيا اليوم في ظلمتها -وأعني بها عزلتنا الثقافية- وذلك لأن المعول في الحكم على حياتنا الثقافية ليس هو تلك العشرات القليلة من صفوة المثقفين الذين يتابعون تيارات الفكر والفن في العالم المتقدم، الذي شاء له الله في هذا العصر أن يكون مبدع الحضارة الجديدة، والثقافة الجديدة معا، بل المعول هو على ما ينشره أصحاب الصوت المسموع لجماهير الشعب ولتسعة أعشار المتعلمين أيضا فإذا رأيت هؤلاء جميعا في واد، وما يعج به العالم المتقدم في واد آخر، فاعلم إذن أن خير تصوير لهذه الحالة هو جزيرة نائية في جنوبي المحيط الهادي لا تسمع عن أحد ولا يسمع عنها أحد.

وأما سلطان الجزيرة -والحديث هنا عن حياتنا الثقافية بوجه عام- فهو يرمز إلى أولئك الذين أمسكوا بزمام الجماهير يكتبون للجماهير ويذيعون للجماهير، فتسمع الأذان جميعا، وتقرأ الأعين القارئة، فذلك السلطان المتسلطن على عرشه، لم تكفه عزلة الشعب في جزيرة فينعزل معه، بل أمعن في العزلة فسكن برجا مصمت الجدران، لا تبصر فيه العين بابا ولا نافذة حتى لتعجب من أين يكون الدخول والخروج، اللهم إلا أن يكون السقف مفتوحا نحو السماء.

وأما الشبح البشع المخيف، الذي هاجم سلطان "الثقافة" الشعبية، فليس هو في الحقيقة بذي وجود وإلا لما كان شبحا، وإنما هو موجود في أوهام السلطان وأعوانه وأشباهه ومريديه, إن الشبح إذا كان قد هدد السلطان بغزو وشيك لجزيرته فما ذلك إلا انعكاس للسمادير الهائمة في تلافيف دماغ السلطان وأدمغة الحاشية، وصورة من الهلوسة التي تفزعهم بالنهار ويرونها في كوابيس الليل، أما الموجود حقا عبر المحيط، والذي يتسلل إلى الجزيرة رغم أنف الكارهين، فهو "ثقافة" تأتي لتنفتح الأبصار وترهف الأذان.

هنا قاطعني زائري بقوله: وما الذي يدعوهم إلى أن يظنوا بالثقافة "غزوا"

<<  <   >  >>