للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فمن يك أمسى بالمدينة رحله ... فإني وقيار بها لغريب

فغريب خبر إن بدليل دخول لام التوكيد عليه وخبر "قيار" محذوف تقديره: كذلك. وكأنما أحس الفراء تلميذ الكسائي أن البصريين مصيبون في موقفهم لعدم جريان ذلك على ألسنة العرب، فرأى أن يتوقف عند نص الآية وأن يخصص القاعدة بما يماثلها، فقال: إنه لا يجوز ذلك إلا فيما لم يظهر فيه عمل إن، وهو الاسم المبني مثل {الَّذِينَ} في الآية, وضمير المتكلم في بيت ضابئ١.

ومن ذلك الآية الكريمة: "إن الذين تدعون من دون الله عِبَادًا أمثالكم" في قراءة سعيد بن جبير بنصب كلمة "عبادا" مما جعل الكسائي يضع قاعدة عامة، وهي أنّ إِن النافية إذا دخلت على الجملة الاسمية عملت عمل ليس، فرفعت الاسم ونصبت الخبر. وهي -في رأي سيبويه- لا تعمل بل تهمل دائما، وكأن قراءة سعيد بن جبير في رأيه شاذة فذة لا يصح أن تتخذ منها قاعدة. ولعل من الطريف أن نعرف أن الفراء كان يتابع سيبويه في رأيه، بينما كان يتابع المبرد البصري الكسائي فيما ارتآه من عملها٢. وفي ذلك ما يشهد بأن مدار الاختلاف بين المدرستين الكوفية والبصرية وأئمتهما لم يكن يراد به إلى المناقضة، وإنما كان يراد به إلى تبين وجه الصواب في إخلاص؛ ولذلك كثر بينهم الالتقاء في الآراء وأن يتابع الكوفي البصريين والبصري الكوفيين، وكأنهم جميعا أغصان من دوحة واحدة.

ومن ذلك الآية الكريمة: {وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ} فقد لاحظ أن اسم الفاعل {بَاسِطٌ} مع أنه بمعنى الماضي في الآية؛ لأنه يحكي قصة أهل الكهف، عمل النصب في كلمة {ذِرَاعَيْهِ} ، فوضع قاعدة عامة، هي أنه يعمل النصب بمعنى الماضي وبمعنى الحال والاستقبال، بينما كان يمنع البصريون عمله النصب فيما بعده على المفعولية وهو بمعنى الماضي، وتأولوا {بَاسِطٌ} في الآية على حكاية الحال الماضية،


١ الإنصاف: المسألة رقم ٢٣, والمغني ص٥٢٧, والهمع ٢/ ١٤٤, وأسرار العربية ص١٥٢.
٢ ابن يعيش ٨/ ١١٣, والرضي ١/ ٢٤٩, والمغني ص١٩, والهمع ١/ ١٢٤.

<<  <   >  >>