للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وَنزل عَبْد الرَّحْمَن بْن عَوْف فِي رجال من الْمُهَاجِرين على سعد بْن الرّبيع فِي بني الْحَارِث بْن الْخَزْرَج.

وَنزل الزبير بْن الْعَوام وَأَبُو سُبْرَة بْن أبي رهم على الْمُنْذر بْن مُحَمَّد بْن عقبَة بْن أحيحة بْن الجلاح فِي بني جحجبي١.

وَنزل مُصعب بْن عُمَيْر بْن هِشَام بْن عَبْد منَاف بْن عَبْد الدَّار على سعد بْن معَاذ بْن النُّعْمَان الأشْهَلِي فِي بني عَبْد الْأَشْهَل.

وَنزل أَبُو حُذَيْفَة بْن عتبَة بْن ربيعَة، وَسَالم مولى أبي حُذَيْفَة وَعتبَة بْن غَزوَان الْمَازِني على عباد بْن بشر بْن وقش فِي بني عَبْد الْأَشْهَل.

وَنزل عُثْمَان بْن عَفَّان على أَوْس بْن ثَابت أخي حسان بْن ثَابت فِي بني النجار.

وَنزل العزاب على سعد بْن خَيْثَمَة وَكَانَ عزبا.

وَلم يبْق بِمَكَّة أحد من الْمُسلمين إِلَّا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بكر وَعلي٢، أَقَامَا مَعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأَمْره. وَحبس قوم كرها، حَبسهم قَومهمْ، فَكتب اللَّه لَهُم أجر الْمُجَاهدين بِمَا كَانُوا عَلَيْهِ من حرصهم على الْهِجْرَة.

فَلَمَّا رَأَتْ قُرَيْش أَن الْمُسلمين قد صَارُوا إِلَى الْمَدِينَة، وَقد دخل أَهلهَا فِي الْإِسْلَام قَالُوا هَذَا شَرّ شاغل لَا يُطَاق. فَأَجْمعُوا أَمرهم على قتل٣ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فبيتوه، ورصدوه على بَاب منزله طول ليلتهم ليقتلوه إِذا خرج. فَأمر النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على بْن أبي طَالب أَن ينَام على فرَاشه، ودعا اللَّه عز وَجل أَن يُعَمِّيَ عَلَيْهِم أَثَره، فطمس اللَّه على أَبْصَارهم، فَخرج وَقد غشيهم النّوم، فَوضع على رُءُوسهم تُرَابا ونهض٤. فَلَمَّا أَصْبحُوا خرج عَلَيْهِم عَليّ وَأخْبرهمْ أَن لَيْسَ فِي الدَّار دَيَّارٌ، فَعَلمُوا أَن رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد فَاتَ وَنَجَا٥.

وتواعد رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أبي بكر الصّديق لِلْهِجْرَةِ، فدفعا راحلتيهما إِلَى عَبْد اللَّهِ بْن أرقط، وَيُقَال ابْن أريقط، الديلِي، وَكَانَ كَافِرًا لكنهما وثقا بِهِ، وَكَانَ دَلِيلا بالطرق، فاستأجراه ليدل بهما إِلَى الْمَدِينَة*.


١جحجبي: جد أحيحة، وَكَانَت دَارهم الَّتِي نزلها الزبير وَأَبُو سَلمَة تسمى الْعصبَة كهمزة وَكَانَت بقباء.
٢ وَأَيْضًا إِلَّا من حبس كرها كَمَا سَيذكرُ ابْن عبد الْبر، وَإِلَّا من فتن عَن دينه الحنيف.
٣ فِي ابْن هِشَام وَغَيره من كتب السّير أَن قُريْشًا لما رَأَتْ الرسَالَة النَّبَوِيَّة تشيع فِي الْعَرَب، وَرَأَوا خُرُوج أَصْحَابه إِلَى الْمَدِينَة خَشوا عَاقِبَة ذَلِك، وخاصة أَن الْمَدِينَة كَانَت فِي طَرِيق قوافلهم التجارية إِلَى الشَّام، فتداعوا للاجتماع بدار الندوة كي يتشاوروا فِيمَا يصنعون بالرسول، وَيُقَال إِن أَبَا البخْترِي بن هِشَام أَشَارَ بحبسه، وَأَشَارَ أَبُو الْأسود ربيعَة بن عُمَيْر بِإِخْرَاجِهِ ونفيه. ورفض المجتمعون الرأيين، وَاتَّفَقُوا على قَتله وَأَن تقوم بذلك مَجْمُوعَة من قُرَيْش تتألف من كل عشيرة فِيهَا، بِحَيْثُ تنتدب عَنْهَا شَابًّا فتيا، ويعمدون إِلَيْهِ فَيَضْرِبُونَهُ بسيوفهم -شلت أَيْديهم- ضَرْبَة رجل وَاحِد، وَبِذَلِك يتوزع دَمه فِي جَمِيع العشائر، فَلَا يقدر بَنو عبد منَاف على حربهم.
٤ فِي بعض الرِّوَايَات أَن الرَّسُول كَانَ يحثو على رُءُوسهم التُّرَاب وَهُوَ يَتْلُو الْآيَات الأولى من سُورَة يس حَتَّى قَوْله تَعَالَى: {فأغشيناهم فهم لَا يبصرون} .
٥ أَشَارَ الْقُرْآن الْكَرِيم إِلَى مَا كَانَت تبيته قُرَيْش من قتل الرَّسُول فِي قَوْله تَعَالَى: {وَإِذ يمكر بك الَّذين كفرُوا ليثبتوك أَو يَقْتُلُوك أَو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله وَالله خير الماكرين} ، وَقَوله جلّ شَأْنه: {أم يَقُولُونَ شَاعِر نتربص بِهِ ريب الْمنون، قل تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعكُمْ من المتربصين} .
* جَاءَ فِي الصَّحِيح أَنه كَانَ هاديا خريتا، قلت: يُؤْخَذ من ذَلِك جَوَاز الِاعْتِمَاد على الْكَافِر فِي الْأُمُور الخطيرة إِذا غلب على الظَّن أَنه لَا يخون، كالاعتماد على الْكَافِر فِي الْكحل، وعَلى النَّصَارَى فِي الطِّبّ وَالْكِتَابَة والحساب وَنَحْو ذَلِك مَا لم تكن ولَايَة فِيهَا عز، فَلَا يجوز الِاعْتِمَاد عَلَيْهِم فِيهَا. وَلَا يلْزم من مُجَرّد كَونه كَافِرًا أَن لَا يوثق بِهِ فِي شَيْء، فَإِنَّهُ لَا شَيْء أخطر من الدّلَالَة فِي الطّرق، وَلَا سِيمَا فِي مثل الْهِجْرَة، وَمَعَ ذَلِك فقد اعْتمد فِيهَا على هَذَا الديلِي وَهُوَ كَافِر، وحمدت الْعَاقِبَة فِي ذَلِك وَالْحَمْد لله. والخريت: الحاذق الَّذِي يعرف مضايق الطّرق وَلَو مثل خرت "ثقب" الأبرة. وَجَاء فِي بعض الطّرق: فَأخذ بهم يَد بَحر أَي طَرِيق السَّاحِل. وَجَاء أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لأبي بكر: "لَا أركب الرَّاحِلَة إِلَّا بِالثّمن" فَقَالَ أَبُو بكر: بِالثّمن يَا رَسُول الله. وَقَالَ بعض أهل الْعلم: قد ورد أَن أَبَا بكر أنْفق على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَاله كُله، وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: "إِن آمنكم عَليّ فِي مَاله أَبُو بكر". فَمَا وَجه كَونه امْتنع أَن يركب الرَّاحِلَة إِلَّا بِالثّمن؟ وَأجِيب أَنه عَلَيْهِ السَّلَام أَرَادَ أَن تكون هجرته لله بِنَفسِهِ وبماله، لَا يَسْتَعِين فِي ذَلِك بالخلق. استحسنه السُّهيْلي [انْظُر الرَّوْض الْأنف ٢/ ٣] .
ويقويه عِنْدِي أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ فِي المربد الَّذِي اتَّخذهُ مَسْجِدا: "لَا آخذه إِلَّا بِالثّمن". وَلم يفعل ذَلِك فِي منزل أبي أَيُّوب.
وَيحْتَمل عِنْدِي أَن يكون إِنْفَاق أبي بكر على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من مَاله إِنَّمَا أُرِيد بِهِ الْإِنْفَاق فِي سَبِيل الله لأجل رَسُول الله ومواساة أَصْحَابه عَلَيْهِم السَّلَام لِمَكَانِهِمْ مِنْهُ عَلَيْهِ السَّلَام، وَلَا يُرِيد الْإِنْفَاق عَلَيْهِ فِي ذَاته وَلَا فِي قوام حَيَاته، فَلهَذَا أعطَاهُ ثمن الرَّاحِلَة.

<<  <   >  >>