للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّانِي؛ فَإِنَّ الشَّارِعَ قَرَّرَهُ عَلَى مُقْتَضَاهُ مِنَ التَّأْكِيدِ فِي الْمُؤَكَّدَاتِ، وَالتَّخْفِيفِ فِي الْمُخَفَّفَاتِ؛ إِذْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ فِيهِ خَادِمٌ طَبْعِيٌّ بَاعِثٌ عَلَى مُقْتَضَى الطَّلَبِ، بَلْ رُبَّمَا كَانَ مُقْتَضَى الْجِبِلَّةِ يُمَانِعُهُ وَيُنَازِعُهُ؛ كَالْعِبَادَاتِ لِأَنَّهَا مُجَرَّدُ تَكْلِيفٍ.

وَكَمَا يَكُونُ ذَلِكَ١ فِي الطَّلَبِ الْأَمْرِيِّ كَذَلِكَ يَكُونُ فِي النَّهْيِ؛ فَإِنَّ الْمَنْهِيَّاتِ عَلَى الضَّرْبَيْنِ؛ فَالْأَوَّلُ كَتَحْرِيمِ الْخَبَائِثِ، وَكَشْفِ الْعَوْرَاتِ، وَتَنَاوُلِ السُّمُومِ، وَاقْتِحَامِ الْمَهَالِكِ وَأَشْبَاهِهَا، وَيَلْحَقُ بِهَا اقْتِحَامُ الْمُحَرَّمَاتِ لِغَيْرِ شَهْوَةٍ عَاجِلَةٍ، وَلَا بَاعِثٍ طَبْعِيٍّ؛ كَالْمَلِكِ الْكَذَّابِ، وَالشَّيْخِ الزَّانِي، وَالْعَائِلِ الْمُسْتَكْبِرِ٢، فَإِنَّ مِثْلَ هَذَا قَرِيبٌ مِمَّا تُخَالِفُهُ الطِّبَاعُ وَمَحَاسِنُ الْعَادَاتِ؛ فَلَا تَدْعُو إِلَيْهِ شَهْوَةٌ، وَلَا يَمِيلُ إِلَيْهِ عَقْلٌ سَلِيمٌ؛ فَهَذَا الضَّرْبُ لَمْ يُؤَكَّدْ بحد٣ معلوم في


١ أي: التقسيم إلى الضربين، وقوله: "كتحريم الخبائث ... إلخ"، ذكر فيه أمثلة لصنفي الضرب الأول، ثم أجرى حكم الضرب الأول الأمري على هذا؛ فقال: "فهذا الضرب ... إلخ"؛ إلا أنه أغفل الضرب الثاني من المنهيات، فلم يمثل له ولم يذكر حكمه كما فعل في الأوامر. "د".
٢ ستأتي الإشارة إلى الحديث الوارد في ذلك قريبًا، قال "ف": "والعائل: الفقير".
٣ أي: بعدد كذبات الملك، وزنيات الشيخ، وكيفية استكبار العائل، وقوله: "ولا وضعت له عقوبة معينة"؛ أي: باعتبار هذه الأوصاف زيادة عن حد الزنا مثلًا ممن كان غير شيخ، وقد يقال: إن هذا جارٍ أيضًا في الكذب والاستكبار لشهوة، فإن لم يوضع لهما حد معلوم عددًا ولا كيفية ولا وضعت لهما عقوبة دنيوية خاصة؛ فالمثال ظاهر الأثر في الزنا لا فيهما، ومما هو داخل في اقتحام المحرمات لغير شهوة ما تواتر عن أمة الترك في هذه الأيام أنهم يتهافتون على أكل لحم الخنزير لا لشعوة، ولكن ليفهموا رئيس حكومتهم المدعو مصطفى كمال كما أنهم شديدو الامتثال له في اطراح الأوامر الإسلامية، وأنهم صاروا إلى الفرنجة في كل شيء، أما أنه ليس لشهوة؛ فظاهر من أن القوم لم يألفوه، بل كانوا يستقذرونه إلى سنة واحدة مضت، وهم يقلدون في هذا شر تقليد؛ لأنهم لا يعرفون أن لحم الخنزير لا يأكله الفرنجة إلا بعد مباحث خاصة ليتحققوا من سلامته من الجراثيم القتالة التي يصاب بها هذا الحيوان بالتوارث أو العدوى، وقد أعدوا لذلك آلات وعددًا بكتريولوجية كما شوهد في بلغاريا الألمانية، وهذا بالضرورة بعض أسباب منع أكله في الدين الإسلامي. "د".

<<  <  ج: ص:  >  >>