للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فالجواب: أن ما نقدم لَا يَدُلُّ عَلَى اطِّرَاحِ الْأَسْبَابِ، بَلْ يَدُلُّ عَلَى تَقْدِيمِ١ بَعْضِ الْأَسْبَابِ خَاصَّةً٢ -وَهَى الْأَسْبَابُ الَّتِي يَقْتَضِيهَا حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى- عَلَى الْأَسْبَابِ الَّتِي تَقْتَضِيهَا حُقُوقُ الْعِبَادِ، عَلَى وَجْهٍ اجْتِهَادِيٍّ شَرْعِيٍّ قَامَتِ الْأَدِلَّةُ عَلَيْهِ؛ فَلَيْسَ بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ أَمْرِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِالْأَسْبَابِ وَاسْتِعْمَالُهُ لَهَا تَعَارُضٌ، وَدَلِيلُ ذَلِكَ إِقْرَارُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِعْلَ مَنِ اطَّرَحَهَا عِنْدَ التَّعَارُضِ، وَعَمَلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى اطِّرَاحِهَا كَذَلِكَ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ، وَنَدْبُهُ٣ إِلَى ذَلِكَ كَمَا تَبَيَّنَ فِي الْأَحَادِيثِ الْمُتَقَدِّمَةِ.

وَقَدْ مَرَّ فِي فَصْلِ الْأَسْبَابِ مِنْ كِتَابِ الْأَحْكَامِ وَجْهُ الْفِقْهِ فِي هَذَا الْمَكَانِ، عِنْدَ ذِكْرِ كَيْفِيَّةِ الدُّخُولِ فِي الْأَسْبَابِ، هَذَا جَوَابُ الْأَوَّلِ.

وَأَمَّا الثَّانِي؛ فَإِنَّ حُقُوقَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى أَيِّ وَجْهٍ فُرِضَتْ أَعْظَمُ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ كَيْفَ كَانَتْ، وَإِنَّمَا فُسِّحَ لِلْمُكَلَّفِ فِي أَخْذِ حَقِّهِ وَطَلَبِهِ مِنْ بَابِ الرُّخْصَةِ وَالتَّوْسِعَةِ لَا مِنْ بَابِ عَزَائِمِ الْمَطَالِبِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِي فَصْلِ الرُّخَصِ وَالْعَزَائِمِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ؛ فَالْعَزَائِمُ أَوْلَى بِالتَّقْدِيمِ مَا لَمْ يُعَارِضْ مُعَارِضٌ.

وَأَيْضًا؛ فَإِنَّ حُقُوقَ اللَّهِ إِنْ كَانَتْ نَدْبًا إِنَّمَا هِيَ مِنْ بَابِ التحسينيات، [وَقَدْ مَرَّ أَنَّ أَصْلَ التَّحْسِينِيَّاتِ] خَادِمٌ لِلضَّرُورِيَّاتِ، وَإِنَّهَا رُبَّمَا أَدَّى الْإِخْلَالُ بِهَا إِلَى الْإِخْلَالِ بِالضَّرُورِيَّاتِ، وَإِنَّ الْمَنْدُوبَاتِ بِالْجُزْءِ وَاجِبَاتٌ بِالْكُلِّ؛ فَلِأَجْلِ هَذَا كُلِّهِ قَدْ يَسْبِقُ٤ إِلَى النَّظَرِ تَقْدِيمُهَا عَلَى وَاجِبَاتِ حُقُوقِ الْعِبَادِ، وَهُوَ نَظَرٌ فِقْهِيٌّ صحيح مستقيم في النظر.


١ أي: أن المأخذ الثاني ليس مبينا على إسقاط الأسباب رأسا، بل إسقاط الأسباب التي تتعلق بحق العبد، والاحتفاظ بالأسباب المتعلقة بحق الرب؛ فقوله: ليس هناك تعارض؛ أي: لأن الأمر بها والأخذ لا يقتضي الدلالة على تقديمها حتما على الأسباب المتعلقة بحق الله تعالى؛ فهذه مقدمة باعتبار هذا النظر وأدلته. "د".
٢ في "ط": "الأسباب على بعض وهي ... ".
٣ في "ط": "وندب".
٤ هو كما ترى من الخطابة. "د".

<<  <  ج: ص:  >  >>