للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ثُمَّ ذَكَرَ مُوسَى وَهَارُونَ وَرَدَّ فِرْعَوْنَ، وَمَلَئِهِ بِقَوْلِهِمْ: {أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا} [الْمُؤْمِنُونَ: ٤٧] إِلَخْ.

هَذَا كُلُّهُ حِكَايَةً عَنِ الْكُفَّارِ الَّذِينَ غَضُّوا مِنْ رُتْبَةِ النُّبُوَّةِ بِوَصْفِ الْبَشَرِيَّةِ، تَسْلِيَةً لِمُحَمَّدٍ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ وَصْفَ الْبَشَرِيَّةِ لِلْأَنْبِيَاءِ لَا غَضَّ فِيهِ، وَأَنَّ جَمِيعَ الرُّسُلِ إِنَّمَا كَانُوا مِنَ الْبَشَرِ، يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ كَجَمِيعِ النَّاسِ، وَالِاخْتِصَاصُ أَمْرٌ آخَرُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى؛ فَقَالَ بَعْدَ تَقْرِيرِ رِسَالَةِ مُوسَى: {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً} [الْمُؤْمِنُونَ: ٥٠] ، وَكَانَا مَعَ ذَلِكَ يَأْكُلَانِ وَيَشْرَبَانِ، ثُمَّ قَالَ: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ} [الْمُؤْمِنُونَ: ٥١] ؛ أَيْ: هَذَا مِنْ نِعَمِ اللَّهِ عَلَيْكُمْ، وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ شُكْرُ تِلْكَ النِّعَمِ، وَمُشَرِّفٌ لِلْعَامِلِ بِهِ؛ فَهُوَ الَّذِي يُوجِبُ التَّخْصِيصَ لَا الْأَعْمَالُ السَّيِّئَةُ، وَقَوْلُهُ: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} [الْمُؤْمِنُونَ: ٥٢] ، إِشَارَةٌ إِلَى التَّمَاثُلِ بَيْنَهُمْ، وَأَنَّهُمْ جَمِيعًا مُصْطَفَوْنَ مِنَ الْبَشَرِ، ثُمَّ خَتَمَ هَذَا الْمَعْنَى بِنَحْوٍ مِمَّا بِهِ بَدَأَ؛ فَقَالَ: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ ... } إِلَى قَوْلِهِ: {وَهُمْ لَهَا سَابِقُون} [الْمُؤْمِنُونَ: ٥٧-٦١] .

وَإِذَا تُؤُمِّلُ هَذَا النَّمَطُ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ إِلَى هُنَا؛ فُهِمْ أَنَّ مَا ذُكِرَ مِنَ الْمَعْنَى هُوَ الْمَقْصُودُ مُضَافًا إِلَى الْمَعْنَى الْآخَرِ، وَهُوَ أَنَّهُمْ إِنَّمَا قَالُوا ذَلِكَ وَغَضُّوا مِنَ الرُّسُلِ بِوَصْفِ الْبَشَرِيَّةِ؛ اسْتِكْبَارًا مِنْ أَشْرَافِهِمْ، وَعُتُوًّا عَلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ؛ فَإِنَّ الْجُمْلَةَ الْأُولَى مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ تُشْعِرُ بِخِلَافِ الِاسْتِكْبَارِ، وَهُوَ التَّعَبُّدُ لِلَّهِ بِتِلْكَ الْوُجُوهِ الْمَذْكُورَةِ، وَالْجُمْلَةَ الثَّانِيَةَ مُؤْذِنَةٌ بِأَنَّ الْإِنْسَانَ مَنْقُولٌ فِي أَطْوَارِ الْعَدَمِ وَغَايَةِ الضَّعْفِ؛ فَإِنَّ التَّارَاتِ١ السَّبْعَ أَتَتْ عَلَيْهِ وَهِيَ كُلُّهَا ضَعْفٌ إِلَى ضِعْفٍ، وَأَصْلُهُ الْعَدَمُ؛ فَلَا يَلِيقُ بِمَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ الِاسْتِكْبَارُ، وَالْجُمْلَةَ الثَّالِثَةَ مُشْعِرَةٌ بِالِاحْتِيَاجِ إِلَى تِلْكَ الْأَشْيَاءِ وَالِافْتِقَارِ إِلَيْهَا، وَلَوْلَا٢ خَلْقُهَا لَمْ يَكُنْ لِلْإِنْسَانِ بَقَاءٌ بِحُكْمِ العادة


١ في "د": "النارات".
٢ في "ط": "إذ لولا".

<<  <  ج: ص:  >  >>