للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الصُّوفِيَّةُ الْأُوَلُ١، وَعَلَى الثَّانِي جَرَى مَنْ عَدَاهُمْ ممن لم يلتزم ما التزموه، ومن ههنا يُفْهَمُ شَأْنُ الْمُنْقَطِعِينَ إِلَى اللَّهِ فِيمَا امْتَازُوا بِهِ مِنْ نِحْلَتِهِمُ الْمَعْرُوفَةِ؛ فَإِنَّ الَّذِي يَظْهَرُ لِبَادِئِ الرَّأْيِ مِنْهُمْ أَنَّهُمُ الْتَزَمُوا أُمُورًا لَا تُوجَدُ عِنْدَ الْعَامَّةِ، وَلَا هِيَ مِمَّا يَلْزَمُهُمْ شَرْعًا؛ فَيَظُنُّ الظَّانُّ أَنَّهُمْ شَدَّدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَتَكَلَّفُوا مَا لَمْ يُكَلَّفُوا، وَدَخَلُوا عَلَى غَيْرِ مَدْخَلِ أَهْلِ الشَّرِيعَةِ.

وَحَاشَ لِلَّهِ! مَا كَانُوا لِيَفْعَلُوا ذَلِكَ وَقَدْ بَنَوْا نِحْلَتَهُمْ عَلَى اتِّبَاعِ السُّنَّةِ وَهُمْ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ السُّنَّةِ صَفْوَةُ اللَّهِ مِنَ الْخَلِيقَةِ، لَكِنْ إِذَا فَهِمْتَ حَالَةَ الْمُسْلِمِينَ فِي التَّكْلِيفِ أَوَّلَ الْإِسْلَامِ، وَنُصُوصِ التَّنْزِيلِ الْمَكِّيِّ [الْمُحْكَمِ] الَّذِي لَمْ يُنْسَخْ، وَتَنْزِيلِ أَعْمَالِهِمْ عَلَيْهِ؛ تَبَيَّنَ لَكَ أَنَّ تِلْكَ الطَّرِيقَ٢ سَلَكَ هَؤُلَاءِ، وَبِاتِّبَاعِهَا عَنَوْا٣ عَلَى وَجْهٍ لَا يُضَادَّ الْمَدَنِيَّ الْمُفَسِّرَ.

فَإِذَا سَمِعْتَ مَثَلًا أَنَّ بَعْضَهُمْ سُئِلَ عَمَّا يَجِبُ مِنَ الزَّكَاةِ فِي مِائَتَيْ دِرْهَمٍ، فَقَالَ: "أَمَّا عَلَى مَذْهَبِنَا؛ فَالْكُلُّ لِلَّهِ، وَأَمَّا عَلَى مَذْهَبِكُمْ؛ فَخَمْسَةُ دَرَاهِمَ"، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ؛ عَلِمْتَ أَنَّ هَذَا يُسْتَمَدُّ مِمَّا تَقَدَّمَ؛ فَإِنَّ التَّنْزِيلَ الْمَكِّيَّ أَمَرَ فِيهِ بِمُطْلَقِ إِنْفَاقِ الْمَالِ فِي طَاعَةِ اللَّهِ، وَلَمْ يُبَيِّنْ فِيهِ الْوَاجِبَ مِنْ غَيْرِهِ، بَلْ وَكَّلَ إِلَى اجْتِهَادِ الْمُنْفِقِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مِنْهُ مَا هُوَ وَاجِبٌ، وَمِنْهُ مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ وَالِاحْتِيَاطُ فِي مِثْلِ هَذَا٤ الْمُبَالَغَةُ فِي الْإِنْفَاقِ فِي سَدِّ الْخَلَّاتِ وَضُرُوبِ الْحَاجَاتِ، إِلَى غَايَةٍ تَسْكُنُ إِلَيْهَا نَفْسُ الْمُنْفِقِ؛ فَأَخَذَ هَذَا الْمَسْئُولُ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ بما أفتى به، والتزمه


١ قوله: "الأول" تقييد لما عليه من ذمه منهم من المتأخرين؛ كما مضى "١/ ٣٥٨"، والفرق بين الطائفتين العلم الشرعي المصفى؛ فالأوائل ممن لهم انقطاع إلى الله لم يفعلوا ذلك إلا بعد تحري الحق والصواب بالأدلة والبراهين.
٢ لعله: "إن في تلك الطريق". "ف".
٣ في ماء": "عللوا".
٤ في "د": "في مثل هذه".

<<  <  ج: ص:  >  >>