للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قَائِمًا فِي الشَّمْسِ، وَلِذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ١ فِي أَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ بِإِتْمَامِ الصَّوْمِ وَأَمْرِهِ لَهُ بِالْقُعُودِ وَالِاسْتِظْلَالِ: "أَمَرَهُ أَنْ يُتِمَّ مَا كَانَ لِلَّهِ طَاعَةً، وَنَهَاهُ عَمَّا كَانَ لِلَّهِ مَعْصِيَةً"؛ لِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَضَعْ تَعْذِيبَ النُّفُوسِ سَبَبًا لِلتَّقَرُّبِ إِلَيْهِ، وَلَا لِنَيْلِ مَا عِنْدَهُ، وَهُوَ ظَاهِرٌ، إِلَّا أَنَّ هَذَا النَّهْيَ مَشْرُوطٌ٢ بِأَنْ تَكُونَ الْمَشَقَّةُ أَدْخَلَهَا عَلَى نَفْسِهِ مُبَاشَرَةً، لَا بِسَبَبِ الدُّخُولِ فِي الْعَمَلِ، كَمَا فِي الْمِثَالِ، فَالْحُكْمُ فِيهِ بيِّن.

وأما إن كانت تابعة للعمل كالمريض غير الْقَادِرِ عَلَى الصَّوْمِ أَوِ الصَّلَاةِ قَائِمًا، والحاجِّ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْحَجِّ مَاشِيًا أَوْ رَاكِبًا، إِلَّا بِمَشَقَّةٍ خَارِجَةٍ عَنِ الْمُعْتَادِ فِي مِثْلِ الْعَمَلِ، فَهَذَا هُوَ الَّذِي جَاءَ فِيهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [الْبَقَرَةِ: ١٨٥] ، وَجَاءَ فِيهِ مَشْرُوعِيَّةُ الرُّخَصِ.

وَلَكِنَّ صَاحِبَ هَذَا إِنْ عَمِلَ بِالرُّخْصَةِ، فَذَاكَ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ٣ عَامِلًا لِمُجَرَّدِ حَظِّ نَفْسِهِ، وَأَنْ يَكُونَ٤ قَبِلَ الرُّخْصَةَ مِنْ رَبِّهِ؛ تَلْبِيَةً لِإِذْنِهِ، وَإِنْ لَمْ يَعْمَلْ بِالرُّخْصَةِ، فَعَلَى وَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنْ يَعْلَمَ أَوْ يَظُنَّ أَنَّهُ يَدْخُلُ عَلَيْهِ فِي نَفْسِهِ أَوْ جِسْمِهِ أَوْ عَقْلِهِ أَوْ عَادَتِهِ فسادٌ يَتَحَرَّجُ بِهِ وَيَعْنَتُ، وَيَكْرَهُ بِسَبَبِهِ الْعَمَلَ، فَهَذَا أَمْرٌ لَيْسَ لَهُ، وَكَذَلِكَ إِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِذَلِكَ وَلَا ظَنَّ، وَلَكِنَّهُ لَمَّا دَخَلَ فِي الْعَمَلِ دَخَلَ عَلَيْهِ ذَلِكَ، فَحُكْمُهُ الْإِمْسَاكُ عَمَّا أَدْخَلَ عَلَيْهِ الْمُشَوِّشُ.

وَفِي مِثْلِ هَذَا جَاءَ: "لَيْسَ مِنَ الْبَرِّ الصِّيَامُ في السفر" ٥.


١ في "الموطأ" "٢/ ٤٧٦- رواية يحيى".
٢ هذا أصل الفرض في كلامه، حيث قال: "مع أن ذلك العمل لا يقتضيها"، فهذا الشرط كالتأكيد لموضوع الكلام. "د".
"٣، ٤" وتقدم الفرق بينهما، هو أنه في الأولى لا ثواب له، إلا أنه دفع عن نفسه الحرج، وفي الثاني له ثوابه مع رفع الحرج "د".
٥ أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الصوم، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم لمن ظُلِّلَ عليه واشتد الحر: "ليس من البر الصوم في السفر"، ٤/ ١٨٣/ رقم ١٩٤٦"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الصيام، باب جواز الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافر" ٢/ ٧٨٦/ رقم ١١١٥" عن جابر رضي الله عنه.

<<  <  ج: ص:  >  >>