للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قَالَ: لَا يقضِ الْقَاضِي وَهُوَ غَضْبَانُ"١ وَكَانَ وَجْهُ النَّهْيِ وَعِلَّتُهُ تَشْوِيشَ الْفِكْرِ عَنِ اسْتِيفَاءِ الْحُجَجِ اطَّرد النَّهْيُ مَعَ كُلِّ مَا يُشَوِّشُ الْفِكْرَ، وَانْتَفَى عِنْدَ انْتِفَائِهِ، حَتَّى إِنَّهُ منتفٍ مَعَ وُجُودِ الْغَضَبِ الْيَسِيرِ الَّذِي لَا يُشَوِّشُ، وَهَذَا صَحِيحٌ مَلِيحٌ.

فَالضَّرْبُ الْأَوَّلُ حَالُهُ حَالُ مَنْ يَعْمَلُ بِحُكْمِ عَهْدِ الْإِسْلَامِ وَعَقْدِ الْإِيمَانِ مِنْ غَيْرِ زَائِدٍ، وَالثَّانِي حَالُهُ حَالُ مَنْ يَعْمَلُ بِحُكْمِ غَلَبَةِ الْخَوْفِ، أَوِ الرَّجَاءِ، أَوِ الْمَحَبَّةِ، فَالْخَوْفُ سَوْطٌ سَائِقٌ، وَالرَّجَاءُ حادٍ قَائِدٌ وَالْمَحَبَّةُ تَيَّارٌ حَامِلٌ، فَالْخَائِفُ يَعْمَلُ مَعَ وُجُودِ الْمَشَقَّةِ، غَيْرَ أَنَّ الْخَوْفَ مِمَّا هُوَ أَشَقُّ يَحْمِلُ عَلَى الصَّبْرِ عَلَى مَا هُوَ أَهْوَنُ وَإِنْ كَانَ شَاقًّا وَالرَّاجِي يَعْمَلُ مَعَ وُجُودِ الْمَشَقَّةِ أَيْضًا، غَيْرَ أَنَّ الرَّجَاءَ فِي تَمَامِ الرَّاحَةِ يَحْمِلُ عَلَى الصَّبْرِ عَلَى تَمَامِ التَّعَبِ، وَالْمُحِبُّ يَعْمَلُ بِبَذْلِ الْمَجْهُودِ شَوْقًا إِلَى الْمَحْبُوبِ، فَيَسْهُلُ عَلَيْهِ الصَّعْبُ، وَيَقْرُبُ عَلَيْهِ الْبَعِيدُ، وَيَفْنَى الْقَوِيُّ وَلَا يَرَى أَنَّهُ أَوْفَى بِعَهْدِ الْمَحَبَّةِ وَلَا قَامَ بِشُكْرِ النِّعْمَةِ، وَيُعَمِّرُ

الْأَنْفَاسَ وَلَا يَرَى أَنَّهُ قَضَى نَهْمَتَهُ، وَكَذَلِكَ الْخَوْفُ عَلَى النَّفْسِ أَوِ الْعَقْلِ أَوِ الْمَالِ يَمْنَعُ مِنَ الْعَمَلِ الْمُسَبِّبِ لِذَلِكَ إِنْ كَانَ لِخَيْرَةِ الْإِنْسَانِ، وَيُرَخَّصُ لَهُ فِيهِ إِنْ كَانَ لَازِمًا لَهُ، حَتَّى لَا يَحْصُلَ فِي مَشَقَّةِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَشْوِيشَ النَّفْسِ كَمَا تَقَدَّمَ.

وَلَكِنَّ الْعَمَلَ٢ الْحَاصِلَ وَالْحَالَةُ هَذِهِ؛ هَلْ يَكُونُ مُجَزِئًا أَمْ لَا إِذَا خَافَ تَلَفَ نَفْسِهِ أَوْ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ أَوْ عَقْلِهِ؟

هَذَا مِمَّا فِيهِ نَظَرٌ يُطَّلَعُ عَلَى حَقِيقَةِ الْأَمْرِ فِيهِ مِنْ قَاعِدَةِ "الصَّلَاةِ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ" وَقَدْ نُقِلَ مَنْعُ الصَّوْمِ إِذَا خَافَ التَّلَفَ بِهِ عَنْ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ، وَأَنَّهُ لَا يُجَزِئُهُ إِنْ فَعَلَ، وَنُقِلَ الْمَنْعُ فِي الطَّهَارَةِ عِنْدَ خَوْفِ التَّلَفِ، وَالِانْتِقَالُ إِلَى التَّيَمُّمِ، وَفِي خَوْفِ الْمَرَضِ أَوْ تلف المال احتمال٣، والشاهد للمنع قوله


١ مضى تخريجه "ص٢٣١"، وهو في "الصحيحين".
٢ في الأصل زيادة كلمة: "الصالح. وفي "ط": ".... يكون مجزئة".
٣ انظر بسط المسألة في "الخلافيات" "٢/ ٤٧٧، ٤٨٣" مع تعليقي عليه.

<<  <  ج: ص:  >  >>