للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

تَعَالَى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمَ} [النِّسَاءِ: ٢٩] ، وَإِذَا كَانَ مَنْهِيًّا عَنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَأَشْبَاهِهَا بِسَبَبِ الْخَوْفِ، لَا مِنْ جِهَةِ إِيقَاعِ نَفْسِ تِلْكَ الْعِبَادَاتِ، فَالْأَمْرَانِ مُفْتَرِقَانِ؛ فَإِنَّ إِدْخَالَ الْمَشَقَّةِ الْفَادِحَةِ١ عَلَى النَّفْسِ يُعْقَلُ النَّهْيُ عَنْهَا مُجَرَّدَةً عَنِ الصَّلَاةِ، وَالصَّلَاةُ يُعْقَلُ الْأَمْرُ بِهَا مُجَرَّدَةً عَنِ الْمَشَقَّةِ، فَصَارَتْ ذَاتَ قَوْلَيْنِ٢.

وَأَيْضًا، فَيَدْخُلُ فِيهَا النَّظَرُ مِنْ قَاعِدَةٍ أُخْرَى، وَهِيَ أَنْ يُقَالَ: هَلْ قَصَدَ الشَّارِعُ رَفْعَ الْمَشَقَّةِ لِأَجْلِ أَنَّ ذَلِكَ حَقٌّ لِلَّهِ، أَمْ لِأَجْلِ أَنَّهَا حَقٌّ لِلْعَبْدِ؟ فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهَا حَقٌّ لِلَّهِ، فَيَتَّجِهُ الْمَنْعُ حَيْثُ وَجَّهَهُ الشَّارِعُ، وَقَدْ رَفَعَ الْحَرَجَ فِي الدِّينِ، فَالدُّخُولُ فِيمَا فِيهِ الْحَرَجُ مُضَادٌّ لِذَلِكَ الرفع، وإن قلنا: إنه حق العبد، فإذ سَمَحَ الْعَبْدُ لِرَبِّهِ بِحَظِّهِ كَانَتْ عِبَادَتُهُ صَحِيحَةً، وَلَمْ يَتَمَحَّضِ النَّهْيُ عَنْ تِلْكَ الْعِبَادَةِ.

وَالَّذِي يُرَجِّحُ هَذَا الثَّانِيَ أُمُورٌ:

- مِنْهَا: أَنَّ قَوْلَهُ تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: ٢٩] قد دَلَّ بِإِشَارَتِهِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ الرِّفْقِ بِالْعِبَادِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النِّسَاءِ: ٢٩] يُشِيرُ بِذَلِكَ إِلَى رَفْعِ الْحَرَجِ عَنْهُمْ؛ لِأَنَّهُ أَرْفَقُ بِهِمْ، وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الْأَنْبِيَاءِ: ١٠٧] وَأَشْبَاهُهَا٣ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى وَضْعِ الشَّرِيعَةِ لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ.

- وَمِنْهَا: مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى رَفْعِ الْحَرَجِ وَإِرَادَةِ الْيُسْرِ، فَإِنَّمَا يَكُونُ النَّهْيُ منتهضا مع فرض الحجر وَالْعُسْرِ، فَإِذَا فُرِضَ ارْتِفَاعُ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى قَوْمٍ ارْتَفَعَ النَّهْيُ، وَمِمَّا يَخُصُّ مَسْأَلَتَنَا قِيَامُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى تَفَطَّرَتْ قَدَمَاهُ، أَوْ تَوَرَّمَتْ قَدَمَاهُ٤، وَالْعِبَادَةُ إِذَا صَارَتْ إِلَى هَذَا الْحَدِّ شَقَّتْ وَلَا بُدَّ، وَلَكِنَّ المر في طاعة


١ هكذا في الأصل و"ط" بالفاء، وفي "د" القادحة.
٢ أي: كما في الصلاة في الدار المغصوبة كما قال؛ لأن الأمر والنهي المتوجهين إلى العمل يمكن انفكاكهما، والخلاف جارٍ فيما لم يكن هناك تلازم كمسألة الصلاة المذكورة. "د"
٣ في "ط": "وما أشبهها".
٤ مضى تخريجه "ص٢٤١".

<<  <  ج: ص:  >  >>