للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَفِي الْحَدِيثِ: "إِنَّكُمْ قَدِ اسْتَقْبَلْتُمْ عَدُّوَّكُمْ وَالْفِطْرُ أَقْوَى لَكُمْ" ١.

وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَ تَرْكُ الْمَكْرُوهِ الَّذِي لَهُ فِيهِ حَظٌّ يُؤَدِّي إِلَى مَا هُوَ أَشَدُّ كَرَاهَةً مِنْهُ، غُلِّبَ الْجَانِبُ الْأَخَفُّ، كَمَا قَالَ الْغَزَالِيُّ: إِنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُقَدَّمَ طَاعَةُ الْوَالِدَيْنِ فِي تَنَاوُلِ الْمُتَشَابِهَاتِ٢، عَلَى التَّوَرُّعِ عَنْهَا مَعَ عَدَمِ طَاعَتِهِمَا، فَإِنَّ تَنَاوُلَ الْمُتَشَابِهَاتِ٢ لِلنَّفْسِ فِيهَا حَظٌّ، فَإِذَا كَانَ فِيهَا اشْتِبَاهٌ طُلِبَ التَّوَرُّعُ عَنْهَا وَكُرِهَ تَنَاوُلُهَا لِأَجْلِهِ، فَإِنْ كان في تناولها رضى الْوَالِدَيْنِ، رُجِّحَ جَانِبُ الْحَظِّ هُنَا بِسَبَبِ مَا هُوَ أَشَدُّ فِي الْكَرَاهِيَةِ، وَهُوَ مُخَالَفَةُ الْوَالِدَيْنِ، وَمِثْلُهُ مَا رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أنَّ طَلَبَ الرِّزْقِ فِي شُبْهَةٍ أَحْسَنُ مِنَ الْحَاجَةِ إِلَى النَّاسِ٣.

فَالْحَاصِلُ أَنَّ الْحُظُوظَ لِأَصْحَابِ الْحُظُوظِ تُزَاحِمُ الْأَعْمَالَ، فَيَقَعُ التَّرْجِيحُ بَيْنَهَا فَإِذَا تَعَيَّنَ الرَّاجِحُ ارْتُكِبَ وَتُرِكَ مَا عَدَاهُ، وَبَسْطُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ هِيَ عُمْدَةُ كَلَامِ الْفُقَهَاءِ فِي تَفَارِيعِ الْفِقْهِ.


١ أخرجه مسلم في "الصحيح" "كتاب الصيام، باب أجر المفطر في السفر إذا تولى العمل، ٢/ ٧٨٩/ رقم ١١٢٠"، عن أبي سعيد الخدري، بلفظ: "إنكم قد دنوتم من عدوكم، والفطر أقوى لكم"، و"إنكم مُصَبِّحُو عدوكم، والفطر أقوى لكم".
٢ في "ط": "المشتبهات".
٣ الوجه في ذلك أن الحاجة إلى الناس مما يترامى بالنفوس على أبواب المهانة، وقد عنيت الشريعة بما يرفعها إلى مراقي العز والشرف حتى أسقطت للمحافظة على كرامة النفس وصيانة ماء المحيا بعض الواجبات، كما أجازت للرجل أن يتيمم ولا يقبل الماء ممن يقدمه له على وجه الهبة لما في مثل ذلك من المنة المكروهة لدى النفوس المتطلعة إلى عز شامخ ومجد أثيل. "خ".

<<  <  ج: ص:  >  >>