ودخول النّسخ في هذا - كما تخيّله بعضهم - لا معنى له؛ فإنّ قوله:
«لا عدوى» خبر محض لا يمكن نسخه إلاّ أن يقال: هو نهي عن اعتقاد العدوى، لا نفي لها. ولكن يمكن أن يكون ناسخا للنّهي في هذه الأحاديث الثلاثة وما في معناها.
والصحيح الذي عليه جمهور العلماء أنّه لا نسخ في ذلك كلّه، ولكن اختلفوا في معنى قوله «لا عدوى»، وأظهر ما قيل في ذلك أنه نفي لما كان يعتقده أهل الجاهلية من أنّ هذه الأمراض تعدي بطبعها من غير اعتقاد تقدير الله لذلك، ويدلّ على هذا قوله:«فمن أعدى الأوّل؟!»، يشير إلى أنّ الأوّل إنما جرب بقضاء الله وقدره، فكذلك الثاني وما بعده.
وخرّج الإمام أحمد والترمذي من حديث ابن مسعود، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا يعدي شيء شيئا» قالها ثلاثا. فقال أعرابي: يا رسول الله، النّقبة من الجرب تكون بمشفر البعير أو بذنبه في الإبل العظيمة، فتجرب كلّها. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:«فما أجرب الأوّل؟ لا عدوى ولا هامة ولا صفر، خلق الله كلّ نفس وكتب حياتها ومصابها ورزقها»(١). فأخبر أنّ ذلك كلّه بقضاء الله وقدره، كما دلّ عليه قوله تعالى:{ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاّ فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها}[الحديد: ٢٢].
فأما نهيه صلّى الله عليه وسلّم عن إيراد الممرض على المصحّ، وأمره بالفرار من المجذوم، ونهيه عن الدخول إلى موضع الطّاعون، فإنّه من باب اجتناب الأسباب التي خلقها الله تعالى، وجعلها أسبابا للهلاك أو الأذى. والعبد مأمور باتقاء أسباب البلاء إذا كان في عافية منها، فكما أنه يؤمر أن لا يلقي نفسه في الماء، أو في
(١) أخرجه: أحمد (١/ ٤٤٠)، والترمذي (٢١٤٣)، وأبو يعلى (٦١١٢)، وابن حبان (٦١١٩)، وهو حديث صحيح له شواهد كثيرة بعضها في الصحيح.