للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فصل في ماهية الزّمان

ذكر بعض القدماء أن الزمان هو دوران الفلك، وقال أفلاطون: هو صورة العالم متحركة بعد صورة الفلك. وقال آخر: هو مسير الشّمس في البروج حكى جميع ذلك النّوبختي، ووجوه هذه الأقوال تتناسب. وحكى أبو القاسم عن أبي الهذيل أنّ للزمان مدى ما بين الأفعال، وأنّ اللّيل والنّهار هما الأوقات لا غيره. وزعم قوم أنه شيء غير اللّيل والنّهار، وغير دوران الفلك، وليس بجسم ولا عرض، ثم قالوا: لا يجوز أن يخلق الله شيئا إلّا في وقت، ولا يفنى الوقت فيقع أفعال لا في أوقات، لأنه لو فني الوقت لم يصح تقدم بعضها على بعض، ولا تأخّر بعضها عن بعض، ولم يبين ذلك فيها وهذا محال.

وقال بعض المتكلّمين: الزّمان تقدير الحوادث بعضها ببعض، ويجب أن يكون الوقت والموقت جميعا حادثين، لأن معتبرهما بالحدوث لا غير، ولذلك لم يصح التّوقيت بالقديم تعالى ثم مثل، فقال: ألا ترى أنك تقول: غرد الديك وقت طلوع الفجر، وتقول: طلع الفجر وقت تغريد الدّيك، فيصير كلّ واحد من طلوع الفجر وتغريد الدّيك وقتا للآخر ومبينا به للمخاطب حدوثه وهذا على حسب معرفته بأحدهما وجهله بالآخر، لأنّ ذلك في التوقيت لا بدّ منه. وقال المحصّل من النّحويين الزمان ظرف الأفعال وإنما قيل ذلك لأن شيئا من أفعالنا لا يقع إلا في مكان وإلا في زمان وهما الميقات.

قال الخليل: الوقت مقدار من الزّمان وكلّ شيء قدرت له حينا فهو موقت، وكذلك ما قدرت له غاية فهو موقت، قال تعالى: إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ*

[سورة الحجر، الآية: ٣٨] والميقات مصير الوقت قال تعالى: فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً

[سورة الأعراف، الآية: ١٤٢] والآخرة ميقات الخلق ومواضع الإحرام مواقيت الحج وفي التّنزيل: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِ

[سورة البقرة، الآية: ١٨٩] والإهلال ميقات الشّهر وفي القرآن: وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ

[سورة المرسلات، الآية: ١١- ١٢] وإنما هي وقّتت ويقال: وقت موقوت وموقت. والزّمان قد يعلم باسمه. وقد يبين بصفاته، فالأول كالسّبت والأحد ورمضان وشوّال، والثّاني كقولك الخميس الأدنى، والجمعة الآتية، وقد يبين بقرينة تضاف إليه كقولك: عام الفيل، ووقت ولاية فلان. وقد يقصد المتكلم بيان قدر الوقت أو صورته أو اتصاله أو انقطاعه بما يكون نكرة كقولك فعلته ليلا وثابرت عليه حولا، وأقمت عنده شهرا.

وفي الاتصال والانقطاع يقولون: فعلته ليلا ونهارا أو غدوا وعشيا وزرته ذات مرة وبعيدات بين. فأما قول من قال: هو الفلك بعينه فقد أخطأ، لأنّ الأفلاك كبيرة في الحال وليست الأزمنة كبيرة في الحال، لأنّ الزّمان ماض ومستقبل وحاضر، والفلك ليس كذلك،

<<  <   >  >>