اعتادوا في الدّنيا والبكرة ما اتصل بما قبله من الليل، والعشي ما يتصل به اللّيل ولا ليل في الجنة ولكن على ما ألفوا في الدّنيا وتعودوه من الأوقات ومثله قوله تعالى: كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً
[سورة الإسراء، الآية: ٩٧] ولا خبو لنار المعاد ولكن عندما علم من خبو نار الدنيا وانقضاء تصرّمها يجدد لأولئك العذاب، فأما قولهم المبكر فهو ما جاء في أوّل الوقت وليس هو من بكور الغداة. ومنه قوله عليه السلام: «بكروا بصلاة المغرب» والتبكير أول أوقات الصّلاة. ومنه قوله عليه السلام: «من بكّر وابتكر» فبكر يكون لأول ساعات النّهار ويكون لأول وقت من الزّوال وابتكر لا يكون لأوّل ساعات النهار.
قال أبو العباس ثعلب: يجوز في قوله: ابتكر أسرع إلى الخطبة حتى يكون أول دان وسامع، كما تقول ابتكرت الخطبة والقصيدة أي اقتضبتها وارتجلتها ابتداء لم أرد فيه وقول الفرزدق: إبكار كرم تقطف فالمراد حملت أول حملها وأنشدني شيخنا أبو علي، قال أنشدني أبو بكر السّراج لعنترة العبسي:
إن كنت أزمعت الفراق فإنما ... زمت جمالكم بليل مظلم
قال يقول: إنّك ابنة ملك فلا يرحل بك إلّا ليلا فلذلك خفي. قال: ويجوز أن يكون المعنى إن كنت أظهرت رحلتك الآن فإنما وقع العزم عليه ليلا، كما قال الحارث بن جلزة شعرا:
أجمعوا أمرهم بليل فلمّا ... أصبحوا أصبحت لهم ضوضاء
كان المراد أمرهم في الارتحال دبر بليل ولم يكن فلتة. وقول الشاعر عمرو ابن كلثوم شعرا:
وأيام لنا غرّ طوال ... عصينا الملك فيها أن ندينا
أراد الأوقات لأنّ معصيتهم للملك كانت في اللّيل والنّهار، فإن قلت: كيف تكون اللّيالي غرا إلا ما يذكر من ليالي الشّهر يقال ثلاث غرر وذلك لبياضها بدوام القمر فيها؟
قيل: لم يرد بالغر بياض الوقت ووضوحه بضياء شمس أو قمر إنما أراد إسفاره وإشراقه واشتهاره في مواطن الشّرف والمجد والسنّا والافتخار، وحميد البلاء، وحسن الآثار ولقاح الغرّة وامتناع الجانب على من يأتيهم وكذلك قول القائل شعرا:
وأيامنا مشهورة في عدّونا ... لها غرر معلومة وحجول
ويجوز أن يريد في الأوّل بالغر أيضا بياض المقاديم كغرّة الفرس، فأما قولهم: أيامنا طابت ببلد كذا والمراد لياليها، فهو من هذا ولذلك قيل: لو أن إنسانا قال: عبدي حر لوجه الله يوم يقدم علينا فلان أنه يعتق وإن قدم ليلا، وعلى هذا قوله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ