للسّمع إلى سكان السماء والمتصرفين فيما يجري عليه أهل الأرض من خير وشر، ورفع ووضع فيؤدّي ما يدركه إلى الكهنة، فيتسوقون به ويدعون علم الغيب فيه، حكى الله تعالى أمرهم في ذلك في غير موضع، وبيّن أنّ الجنّ عزلوا عمّا كانوا يتولّونه من التقاط الأنباء من أهل السّماء وبثّها فيمن كان يعبدهم من السّحرة والكهنة.
[سورة الجن، الآية: ٩] يريد أنّا طلبنا السّماء جريا على عادتنا من قبل في التسمّع إلى أهلها وقد حجبنا الآن دونها وملئت بمن يحرسها منّا ويرمينا بالنّار إذا تعرّضنا له.
ثم ختم الكلام في الحكاية عنهم بأنّهم قالوا: لا نعلم ماذا أريد بما فعل لأهل الأرض من الغيّ أو الرّشد أو الصّلاح، أو الفساد يريدون ما خفي عليهم من ايتناف الرّسالة واستحداث الشّريعة والدّلالة على أنّ لمسنا طلبنا قول الشاعر وهو يرثي ابنا له:
هوى ابني من أشرف ... يهول عقابه صعده
ثم قال:
ألام على تبكيه ... وألمسه فلا أجده
فاقتران الوجدان بقوله ألمسه: يدل على أنّ المراد به أطلبه فلا أجده، وقال تعالى في موضع آخر: وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ
[سورة الشعراء، الآية: ٢١٠- ٢١٢] يريد تنزيه وحيه وتثبيت رسالته على لسان نبيّه.
فإن قيل: إذا كان أمر الكهّان مع شياطين الجن على ما ذكرت ومؤدّى الغيب على ألسنتهم من نقلهم كما اقتصصت، فما الفرق بين أخبار النّبي وأخبارهم؟ وبماذا يتميز ما مبناه على الحق والصدق لا تبديل يصحبه ولا خلف يعترض فيه مما هو بخلافه، ومبناه على التّمويه والتّشبيه والمخرفة والتّزويق؟! قلت: إنّ أولئك الكهّان إنمّا تكهّنوا في أثناء أيام الفترة المتأخرة، وقبل طلوع سوابق المعجزة، واستقام لهم ذلك لمّا أراد الله تعالى من تمرين النّاس على ما يريد إظهاره من إعلام النّبوّة يدل على هذا أنّه لم يحك ما يشبه بلاغاتهم عند الإخبار والاستخبار فيما تقادم من أخبار ملوك قحطان وعدنان والذوين والتّبايعة وفيما ذكر قبلهم من أخبار طسم وجديس، ومن كان في الجاهلية الجهلاء، وإنّما قامت أسواقهم في أيام النّعمان والمنذر ابن ماء السّماء وأشباههم.