للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الذي يدلّ على أنّ شأنهم كان تعظيم الرّجال والاستسلام للمنشأ والذّهاب مع العصبيّة والهوى ما نجد من اعتقاد أكثر أهل البصرة وسوادهم لتقديم عثمان، واعتقاد أهل الكوفة لتعظيم علي، ومن اعتقاد أكثر الشاميين لدين بني أمية وحب بني مروان حتى غلط قوم فزعموا أنّ هذا لا يكون إلّا من قبل الطالع، أو من قبل التّربة، كما تجد لأهل كل ماء وهواء نوعا من المنظرة والرّأي والطّبيعة واللّون واللّغة، والنّشوء والبلدة ولو كان ذلك كما ظنّوا لما حسن الأمر والنّهي ولا كان لإرسال الرّسل معنى، ولما جاز الثّواب والعقاب بلى لإستمالة النّاس بالتّرغيب والتّرهيب والاصطناع والتّقريب؛ والذّهاب مع المألوف شأن عجيب.

وذكر بعض المفسرين وهو عبد الله بن عباس في قوله تعالى: وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ

[سورة الواقعة، الآية: ٨٢] أنه القول بالأنواء وقرأ علي، وتجعلون شكركم أنكم تكذبون، فأما قوله تعالى: إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ

[سورة البقرة، الآية: ٧٨] فإنّ للالف والعادة سلطانا على النّفوس والقلوب قويا وأخذا بالبصائر، والعيون عزيزا. وكانوا إذا استهجنوا مستكرما، واستقبحوا مستحسنا، وعدلوا عن مألوف إلى متروك، وعن معمول إلى مرفوض وتنقلت بهم الأحوال وتبدّلت لهم الأبدال طلبوا المعاذير والعلل، وصرفوا الفكر في الأسباب والدّواعي من جوانب الالف والعادة لا من نواحي النّظر والتّدبر لطلب الإصابة، فرضوا بأن يعملوا الظّنون، والأوهام، وتحمّلوا تلك الأفاعيل على الأسماء فضلا عن الذّوات ثقة بما يشاهدون واغترارا بآرائهم فيما يحكمون لذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تسبوا الدّهر فإنّ الله هو الدّهر» لأنه رآهم يقولون لذلك الاعتقاد الفاسد: أباد بني فلان الدّهر، وأفناهم الليالي كقول بعضهم شعرا:

يا دهر قد أكثرت فجعتنا إذا ... بسراتنا ووقرت في العظم

وسهلتنا ما لست تعقبنا به ... يا دهر ما أنصفت في حكم

وكقول الآخر:

وإنّ أمير المؤمنين وفعله ... لكا لدّهر لا عار بما فعل الدّهر

ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم لا تسبّوا الدّهر أي لا تسبّوا الذي يفعل هذه الأشياء فإنّكم إذا سببتم فاعلها فإنّما يقع السّب على الله تعالى. ومنهم من اعتقد أنّ تلك الحوادث من فعله تعالى لكنّه أجرى العادة بأن يفعلها عند طلوع تلك النّجوم، أو أفولها لأنّهم مختلفون في ذلك أيضا كأنهم يعدّون تلك التّغيرات أوقاتا لها، وأمارات وسمّوها الأنواء باتّفاق منهم لأنّ النوء يكون السّقوط والطّلوع، وهذا قريب في الدّين والعقل لا إنكار فيه، وعلى هذا يحمل قول عمر للعبّاس حين استسقى: يا عمّ رسول الله كم بقي من نوء الثّريا. فإنّ العلماء بها يزعمون أنها تعرض في الأفق سبعا لأنّ هذا أمر عيان على مجار قائمة ومسير مركب، وقد جعل الله

<<  <   >  >>