للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

إذن بدأ هذا التحول من الفكر الإسلامي إلى المنطقي من النصف الثاني من القرن الرابع الهجري، وتظل خصائص هذا التحول " تمتد عبر القرون التالية حتى العصر الحديث، فإن الدراسات النحوية التقليدية المعاصرة تتبع في دقة اتجاهات النحاة في هذه المرحلة، وتلتزم بأصولهم عن وعي حيناً ودون إدراك أحياناً، ودون تمرد على هذه الأصول دائماً " (١) .. وقد بلغ القياس ذروته في هذه المرحلة (٢) على يد أبي علي الفارسي (ت ٣٧٧هـ) ، وتلميذه ابن جني (ت ٣٩٢هـ) فنادوا بذلك الرأي المشهور: " ما قيس على كلام العرب فهو من كلام العرب " (٣) ، وقد بلغ من اعتزاز أبي علي بالقياس أن روي عنه أنه قال: " لأن أخطئ في خمسين مسألة مما بابه الرواية أحبّ إليّ من أن أخطئ في مسألة واحدة قياسية " (٤) وهكذا نهض هذان الإمامان بالقياس نهضة لم يحظ بمثلها أحد قبلهما ولا بعدهما حتى اليوم.

أما الفارسي فقد عشق القياس الذي بهره وأخذ على فكره السبل، فصار يمتحن به كل مسألة تعرض له، وعلى رسومه يصدر فتواه ويعتقد آراءه.. فقد سأله ابن جني يوماً: " هل يجوز لنا في الشعر من الضرورة ما جاز للعرب أم لا؟ " فقال: " كما جاز أن نقيس منثورنا على منثورهم، فكذلك يجوز لنا أن نقيس شعرنا على شعرهم، فما أجازته الضرورة لهم أجازته لنا، وما حظرته عليهم حظرته علينا، وإذا كان كذلك فما كان من أحسن ضروراتهم فليكن من أحسن ضروراتنا، وما كان من أقبحها عندهم فليكن من أقبحها عندنا، وما بين ذلك بين ذلك " (٥)

... وقد سار ابن جنى على منهج أستاذه أبى على الفارسي في القياس، ويتضح ذلك من كثرة الآراء التي رواها عنه في كتابه " الخصائص"، كما أن ابن جنى قد خطا بالقياس إلى الأمام خطوات واسعة.

<<  <  ج: ص:  >  >>