يتجلى الفرق بين طبيعة الشعر، كتجربة إبداعية، وطبيعة النثر، كعملية عقلية، بصورة أكثر وضوحاً، لدى أولئك الأدباء الذين استهلوا حياتهم بالدخول إلى الأدب عبر بوابة الشعر، ثم قيّض الله لهم الانتقال إلى عالم الفكر، وما يستتبعه من ممارسة عقلية، تنأى به عن عالم الشعر، وما يكتنفه من خيال وتجنيح، إلى عالم الفكر وما يقتضيه من وضوح ومباشرة، وجدلية تتطلع إلي الإقناع عبر الحجة والدليل.
ولم يكن اختيار اجمد جمال باعتباره المثال الوحيد في بابه، ولكن باعتباره نموذجاً واضحاً بين الأدباء السعوديين لحالة الشروع في قرض الشعر، على نية الاستمرار فيه من خلال إطلاق اسم (الطلائع) على ديوانه الأول والوحيد، ثم إغلاق الباب على موهبة الشعر، والانتقال الى ميدان الفكر، والعكوف على الدراسات المتشعبة عنه.
واقتضى ذلك مواكبة مرحلة التكوين والإرهاصات الشعرية الأولى لأحمد جمال، إلى ان استوت تلك الموهبة على سوقها، وتبلورت مرحلة الشعر في حياته.
وتعين قبل الوصول الى عالم الفكر، ان نعبر الجسر الفاصل بين الحقلين، فوقف الباحث أمام قضية نقدية هامة لمناقشة طبيعة الشعر، وطبيعة النثر، وإيراد آراء وأقوال النقاد، من قدماء ومعاصرين، حول مظاهر الاختلاف بين الشعر والنثر وخصائص لغة كل منهما، وتوظيف الخيال في الشعر، والركون إلى الحقائق والأدلة في النثر.
ثم حاول البحث تلمس بواعث انتقال أحمد جمال من الشعر إلى النثر، دون ان يغفل التمثيل على هذا الانتقال بنموذجين بارزين سبقا أحمد جمال إلى نفس المسار، وهما الأستاذ مصطفى صادق الرافعى، والأستاذ سيد قطب، رحمهم الله جميعا.