وحقيقة الاصطفاء: افتعال من التصفية. فيكون قد صفاهم من الأكدار. والخطأ من الأكدار. فيكونون مصفين منه. فمن المحال أن يحرمهم كلهم الصواب في مسألة فيفتي فيها بعضهم بالخطأ ولا يفتي فيها غيره بالصواب ويظفر فيها بالهدى من بعدهم.
ولا ينتقض هذا بما إذا اختلفوا لأن الحق لم يَعدُهُم فلا يكون قول بعضهم كدراً؛ لأن مخالفته الكدر. وبيانه يزيل كونه كدراً، بخلاف ما إذا قال بعضهم قولاً ولم يخالف فيه. فلو كان باطلاً ولم يَرُدَّهُ رادٌّ لكان حقيقة الكدر.
وهذا لأن خلاف بعضهم لبعض بمنزلة متابعة النبي صلى الله عليه وسلم في بعض أموره فإنها لا تخرجه عن حقيقة الاصطفاء.
٦- أن الله تعالى شهد لهم بأنهم أوتوا العلم بقوله:- {ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق}[سبأ ٦] .
وقوله:- {حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم ماذا قال آنفاً}[محمد ٤٧]
وقوله:- {يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات}[المجادلة ١١] .
واللام في العلم ليست للاستغراق وإنما هي للعهد:- أي العلم الذي بعث الله به نبيه صلى الله عليه وسلم.
وإذا كانوا قد أوتوا هذا العلم كان اتباعهم واجباً؛ ولأن من بعدهم تبع لهم في ذلك.
ولأن من المحال أن يجهل الصحابة الحق والهدى ويهتدي إليه المتأخرون.
ولأن للصحابة خاصية لا يشركهم فيها أحد فهم قد تعلموا العلم والعمل في مدرسة النبوة تحت رعاية رسول الله صلى الله عليه وسلم وتوجيهاته، بعد أن وقفوا على أسرار التشريع ومقاصده وحكمه، فكانوا يجتهدون بين يديه فيقر المصيب ويصوب المخطيئ، وكانوا يسألونه عما أشكل عليهم وخفي ويحاورونه ويشاركونه الرأي؛ لذا فإنهم قد فهموا منه الكثير ووقفوا على أمور لا تدرك بالنقل والرواية عنه صلى الله عليه وسلم ( [٩٥] ) ، فكانت لهم تلك الميزة والخاصية فكانت أقوالهم ليست كأقوال غيرهم.