فلو وقع لنصب الله عليه دليلاً – كأن ينكره عليه الرسول صلى الله عليه وسلم أو أحد من صحابته -يبين بطلانه لئلا تعمل الأمة بالضلال وتعتقد الباطل طيلة المدة السابقة حتى جاء المتأخرون فزيفوه واهتدوا للحق الذي خفي على أولئك الكرام، ومجرد تصوره يكفي للحكم ببطلانه.
أما المدارك التي شاركناهم فيها من دلالات الألفاظ والأقيسة فلا ريب أنهم كانوا أبر قلوباً، وأعمق علماً، وأقل تكلفاً، وأقرب إلى أن يوفقوا فيها لما لم نوفق له نحن لما خصهم الله تعالى به من توقد الأذهان، وفصاحة اللسان، وسعة العلم، وسهولة الأخذ، وحسن الإدراك، وسرعته، وقلة المعارض أو عدمه، وحسن القصد، وتقوى الرب تعالى.
فالعربية:- طبيعتهم وسليقتهم.
والمعاني الصحيحة:- مركوزة في فطرهم وعقولهم.
ولا حاجة بهم إلى النظر في الإسناد وأحوال الرواة وعلل الحديث والجرح والتعديل.
ولا إلى النظر في قواعد الأصول وأوضاع الأصوليين.
بل قد غنوا عن ذلك كله.
فليس في حقهم إلا أمران:-
أحدهما:- قال الله تعالى كذا، وقال رسوله كذا.
والثاني:- معناه كذا وكذا.
وهم أسعد الناس بهاتين المقدمتين وأحظى الأمة بهما. فقواهم متوفرة مجتمعة عليهما.
وأما المتأخرون فقواهم متفرقة وهممهم متشعبة.
فالعربية وتوابعها قد أخذت من قوى أذهانهم شعبة.
والأصول وقواعدها قد أخذت منها شعبة.
وعلم الإسناد وأحوال الرواة قد أخذ منها شعبة.
وفكرهم في كلام مصنفيهم وشيوخهم على اختلافهم وما أرادوا به قد أخذ منها شعبة، إلى غير ذلك من الأمور.
فإذا وصلوا إلى النصوص النبوية - إن كان لهم همم تسافر إليها - وصلوا إليها بقلوب وأذهان قد كلت من السير في غيرها وأوهن قواهم مواصلة السرى في سواها، فأدركوا من النصوص ومعانيها بحسب القوة.