((جاء عيسى بن عمر الثقفيّ ونحن عند أبي عمرو بن العلاء فقال يا أباعمرو: ما شيء بلغني عنك تجيزه؟ قال: وما هو؟ قال بلغني أنك تجيز ليس الطيب إلا المسك (بالرفع) فقال أبوعمرو: نمت وأدلج الناس. ليس في الأرض حجازيّ إلا وهو ينصب، وليس في الأرض تميميّ إلا وهو يرفع. ثمّ قال أبو عمرو: قم يا يحي- يعني اليزيديّ - وأنت يا خلف- يعني خلف الأحمر- فاذهبا إلى أبي المهديّ فإنّه لا يرفع، واذهبا إلى المنتجع ولقناه النصب فإنه لا ينصب. قال: فذهبنا فأتينا أبا المهديّ ... قال اليزيديّ: ليس ملاك الأمرإلا طاعةُ الله والعملُ الصالح فقال: ليس هذا لحني ولا لحن قومي؛ فكتبنا ما سمعنا منه، ثمّ أتينا المنتجع فأتينا رجلاً يعقل، فقال له خلف: ليس الطيب إلا المسكَ (بالنصب) فلقّنّاه النصب وجهدنا فيه فلم ينصب وأبى إلا الرفع)) (٢٣) .
ولما طال مكث الأعراب في الحضرلانت جلودهم وطاعت ألسنتهم بشوائب العجمة؛ يقول الجاحظ:((كان بين يزيد بن كثوة يوم قدم علينا البصرة وبينه يوم مات بون بعيد على أنّه كان قد وضع منزله آخر موضع الفصاحة وأول موضع العجمة)) (٢٤) .
فلما ضعفت ثقة العلماء بالأعراب رحل العلماء والرواة إلى البادية بمدادهم وصحفهم ليسمعوا من أولئك الذين لم تتأثر ألسنتهم بمخالطة الأعاجم، قال أبو العباس ثعلب:((دخل أبو عمرو الشيبانيّ (إسحاق بن مرار) البادية ومعه دستيجانحبراً فما خرج حتى أفناهما بِكَتْبِ سماعه عن العرب)) (٢٥) .
وممن خرج إلى البادية الكسائيّ، ورجع وقد أنفد خمس عشرة قنينة حبراً في الكتابة عن العرب سوى ما حفظ. (٢٦)
وكان أبوعمرو بن العلاء من أوائل الرواة الذين رحلوا إلىالبادية وأعجب بأهل السروات وعدّهم من أفصح العرب لساناً وأعذبهم لغة. (٢٧)