وقد جسد الجرجاني في مواقع أخرى من كتابيه دلائل الإعجاز وأسرار البلاغة جوهر الغموض المتمثل في الإشارة والكناية والرمز والصياغة والصورة، حيث تبرز هذه الأشكال والموضوعات البلاغية أهمية الغموض المتمثل في المستوى الفني الذي يجسد جوهر العمل الابداعي وأساسه. يقول:"ثم إن التوق إلى أن تقر الأمور قرارها، وتوضع الأشياء مواضعها، والنزاع إلى بيان ما يشكل، وحل ما يتعقد، والكشف عما يخفى، وتلخيص الصفة حتى يزداد السامع ثقة بالحجة، واستظهاراً على الشبهة، واستبانة للدليل، وتبييناً للسبيل شيء في سوس العقل، وفي طباع النفس إذا كانت نفساً ولم أزل منذ خدمت العلم أنظر فيما قاله العلماء في معنى الفصاحة والبلاغة، والبيان والبراعة، وفي بيان المغزى من هذه العبارات وتفسير المراد بها، فأجد بعض ذلك كالرمز والإيماء والإشارة في خفاء، وبعضه كالتنبيه على مكان الخبيء ليطلب، وموضع الدفين ليبحث عنه فيخرج، وكما يفتح لك الطريق إلى المطلوب لتسلكه، وتوضع لك القاعدة لتبني عليها، ووجدت المعول على أن ههنا نظماً وترتيباً، وتأليفاً وتركيباً، وصياغة وتصويراً، ونسجاً وتحبيراً، وأن سبيل هذه المعاني في الكلام الذي هي مجاز فيه سبيلها في الأشياء التي هي حقيقة فيها. وأنه كما يفضل هناك النظم النظم والتأليف التأليف، والنسج النسج والصياغة الصياغة. ثم يعظم الفضل. وتكثر المزية، حتى يفوق الشيء نظيره، والمجانس له درجات كثيرة، وحتى تتفاوت القيم التفاوت الشديد، كذلك يفضل بعض الكلام بعضاً. ويتقدم منه الشيء الشيء، ثم يزداد من فضله ذلك ويترقى منزلة فوق منزلة، ويعلو مرقباً بعد مرقب، ويستأنف له غاية بعد غاية، حتى ينتهي إلى حيث تنقطع الأطماع، وتحسر الظنون، وتسقط القوى، وتستوي الأقدام في العجز"(٢٦) .