والصحراء مكان فضفاض، يغيب فيه البصر الحديد، ويمتد أمامه الأفق واسعًا رحبًا حتى كأنه لا نهاية له. للصحراء في العين مجتلى ومتعة، وللنفس فيها راحة وروحانية، وللفكر انبعاث وإبداع وتجديد. عرف العربيُّ الصحراءَ قبل أن يعرف البحر، ورأى أديمها قبل أن يرى زرقة الماء، ولامس أديمها جلده دون حائل، وجال في حزونها وسهولها، وسرَّح أنعامه في أفيائها، وشمَّ أريجَ نبتها وأزهارها، واستنبط الماء من جوفها لذة للشاربين، وافتن في شؤون الحياة وضروب العيش على ظهرها، وعاش – ما شاء الله له أن يعيش – وهو لا يعرف شيئًا سوى سهولها وجبالها ورمالها وأبارقها ورياضها وأوديتها ووهادها، يضرب في أكنافها سحابة نهاره، فإن جنّ الظلام أوى إلى بيته مستمتعًا بنعيم الراحة ولذة الدفء، إن كان الوقت شتاءً، ولذة الجو المعتدل والنسيم العليل إن كان الوقت صيفًا.
امتزج العربيُّ بالصحراء حتى غدت قطعة من نفسه، وجزءًا من حياته، فلا يرى لغيرها بديلاً، ولا عنها متحولاً. استمد منها تجارب حياته، ونمط عيشه، وكوّن من مناظرها، وتفاعله معها ثقافته ورؤيته للحياة. عرف نسائمها ورياحها، وعانى قُرَّها وحَرَّها، وتقلبات جوها، وشارك حيواناتها وطيورها في البحث عن العيش، فكان منها المستأنس الداجن، والسبع الضاري، فعاملها بما ينسجم مع طبيعة حياته وطريقته في الإقامة والتَّرْحال، والبحث عن ما يقيم أوده ويكفيه رزقه.
ولم يقنع بما يقنع به القوم ذوو الهمم الضعيفة والأفكار المحدودة، بل كان طمَّاحًا متطلعًا، يدفعه في ذلك ذكاء لمَّاح، وبديهة على اللسان حاضرة، وذهن متوقد، فهو – كما قال طرفةُ بن العبد – (١) :
(١) ... ديوانه: ٥٩، وهو من معلقته المشهورة. الضرب: الخفيف من الرجال. الخشاش بتثليث الخاء: الرجل الذكي الماضي في الأمور. الحية: الثعبان. المتوقد: الذكي الكثير الحركة. شرح ديوانه.