فللصحراء فضل لا ينكر في نشأة الشعر العربي، وتدرجه، ثم تطوره وسموقه وازدهاره. نقرأ الشعر الجاهلي في لغته الرفيعة، وأسلوبه البليغ، وموضوعاته الغنية المتنوعة، فنعجب لابن الصحراء كيف استطاع أن يمتلك عنان عبقرية الشعر، وهو أمي لا يقرأ ولا يكتب، ولم يتخرج في مدرسة أو جامعة، وثقافته في الحياة لا تتعدى ثقافة الصحراء التي منحته هذا القدر الهائل من التفكير والتصوير والبيان الذي يأخذ بمجامع قلوبنا، على الرغم من مضي ستة عشر قرنًا على قرض هذا الشعر الذي نقرؤه وندرسه كما نقرأ وندرس شعر الشعراء الذي نعيش معهم في عصر واحد ومكان واحد.
الصحراء ونشأة الشعر العربي
في زخم الصراع وخضم العراك بين الاتجاه الحداثي في كتابة الشعر شكلاً ومضمونًا، والاتجاه إلى استلهام مضمون الشعر العربي الأصيل الموروث، واتخاذه قاعدة أساسية، ومرتكزًا أوليًا يعتمد عليه شعراء الأصالة فيما يتناولون من صور التجديد، وعوامل التطوير استجابة لمعطيات الحياة البشرية والتجارب الإنسانية، يحلو الحديث ويطيب عن النبع الأول، والإرهاصات التي تمخض عنها شعر العربية منذ أن كان طفلاً وليدا يحبو حتى اشتد عوده، واستقام على سُوقه.
وعلى الرغم من كثرة الدراسات والبحوث التي قام بها الباحثون من عرب ومستشرقين في محاولة لوضع نظرية تقترب من الحقيقة نوعًا ما حول البداية الأولى لنشأة الشعر العربي، فإنها لم تسفر عن نتيجة يطمئن إليها الباحث، ويركن إليها الدارس المعني بهذا الموضوع.
وكثيرا ما يتساءل بعض المهتمين بالشعر العربي ونشأته وتطوره عن الكيفية التي ولد بها هذا الشعر؟ وكيف نشأ؟ وما المراحل والخطوات التي مر بها وقطعها حتى استقام على تلك الطريقة الفنية المكتملة شكلاً ومضمونًا، التي وجدناها في شعر أوس بن حجر، والمهلهل، وامرئ القيس، والنابغة الذبياني، وزهير، وأضرابهم من شعراء الرعيل الأول في العصر الجاهلي؟