وعلى الرغم من أن مقارنة أحوال العرب بأحوال أمم أخرى ومضاهاتها بها قد تفيد في مجال التنظير المجرد، لكنها لا تسلم عند التطبيق من مظنة التعسف والاقتسار، ولا تنأى عن جادة الزلل والخطأ. ويرى بعض الدارسين أن السجع كان البذرة الأولى لبداية الشعر، ثم تطور السجع إلى الرجز، ثم تحول الرجز إلى ذلك الشعر المنظوم على البحور الشعرية المعروفة التي استنبطها الخليل بن أحمد الفراهيدي (١٠٠- ١٧٠هـ) . ولم يكن الرجزُ في العصر الجاهلي شائعًا، فلا يوجد منه إلاّ الأبيات القليلة يقولها الراجز في حاجته، ولم يكثر الشعراء منه إلا في العصر الأموي، حيث وجد رجاز تفرغوا له، منهم العجّاج، وابنه رؤبة، وأبو النجم العجلي، والزفيان السعدي، حتى سمي بحر الرجز بحمار الشعراء، لكثرة ما نظموا فيه.
وقد حاول ابن سلام أن يضرب لنا مثالاً في مقدمة كتابه طبقات فحول الشعراء لبداية نشأة الشعر عند العرب بقوله:((لم يكن لأوائل العرب من الشعر إلا الأبياتُ يقولها الرجلُ في حاجته، وإنما قصدت القصائد، وطول الشعر على عهد عبد المطلب، وهاشم بن عبد مناف)) (١) .
أما أن أوائل العرب من الشعراء لم يكن لهم من الشعر إلا الأبيات فهذا صحيح يؤيده الواقع المشاهد والتجارب المتماثلة؛ لأنّ هذه الأبيات القليلة يقولها الرجل عبارة عن محاولات وإرهاصات وتجارب أولية لتقصيد القصائد وتطويل الشعر، فالشعر وكذا سائر الفنون الأدبية الأخرى لم تنشأ دفعة واحدة، بل كان لابد لها لكي تنضج وتكتمل من مرحلة زمنية تستوعب فيها النمو والنضج والاكتمال.