.. وقد ارتقت هذه الشهقات والآهات، أو الصيحات الانفعالية التلقائية عند الأمم تدريجياً، أو سارت في سبيل الرقي شيئاً فشيئاً تبعاً للارتقاء العقلي والتطور الفكري عند الإنسان، ومن ثم ابتعدت عن العفوية والتلقائية واستعملت بصور مهذبة منظمة بعيدة عن الانفعال العفوي الذي كان سبباً لوجودها عند الإنسان الأول. يؤكد ذلك أنها بدأت تستعمل في الكلام المفهوم المحتوي على معان محددة واضحة، إضافة إلى استخدامها في بليغ القول وفصيحه، في الشعر الذي يحتاج إلى كثير من الدقة والتروي وحسن الصنعة كي يسير على القواعد المرعية والأسس المتبعة من حيث الوزن القافية والروي وكل الخصائص الخاصة بالشعر، وهذا التفنن في نظم الشعر يتنافى مع العفوية ويتناقض مع الانفعالات التلقائية التي هي عبارة عن صيحات مختلفة ذات دلالات محددة. قال الشاعر:
فَأوهِ لِذْكراها إذا ماذَكَرْتُها
ومن بُعْدِ أَرضٍ بيننا وسماء (١٣١)
فأوهِ وما شابهها من ألفاظ: أَوَّهْ، وأَوّهُ، وآووه، وأوْهِ، وأوْهَ، وآهِ كلها كلمة واحدة معناها التحزن، وأَوْهِ من فلان إذا اشتد عليك فقده (١٣٢) . فكل هذه الآهات والتأوهات أسماء أفعال تدل على معنى الحزن والحسرة، كما تدل على معنى اللهفة والحرقة والاشتياق. قال الخليل: وواه تلهف وتلدد، وينون أيضاً كقول أبي النجم:
واهاً لرّيا ثم واها واها (١٣٣) . إنها صرخات تصدر عن شخص يمزقه البعد والحرمان، يصرخ بها معبراً عما به من لهفة ولوعة. إنها وسيلة يلجأ إليه المتألم من حزن ألمّ به، والمتوجع من كآبة أصابته فإذا شعر بهذا الحزن وتلك الكآبة صاح قائلاً آه، وها. فهذه الأصوات علامة على ما يشعر به ويعاني منه، فهي أسماء أفعال بمعنى أتوجع، ومن ذلك قول عمر بن أبي ربيعة:
لا، بل يَمُلّك عند عَوْدَتِهِ
فيقول هاه وطالما لبىّ (١٣٤)
قال الأزهري: آه حكاية المتأهِّه في صوته، وقد يفعله الإنسان شفقة وجزعاً