المشقات، وإنما أراد إصلاح حاله. كما أن الطبيب ما أراد إيلام المريض بمرارة الدواء وإنما أراد شفاءه.
النوع الثاني: مشقة خارجة عن معتاد الناس، ولا يمكن أن يداوموا على احتمالها؛ لأنهم إذا داوموا عليها انبتوا وانقطعوا، ونالهم الضرر والأذى في أنفسهم أو أموالهم، وأي شأن من شئونهم؛ كالمشقة في صوم الوصال، والمثابرة على قيام الليل، والترهب، والصيام قائمًا في الشمس، والحج ماشيًا، والتزام العزيمة في حال الترخيص بتركها مهما لحق من ضرر، فهذه المشقة لا يكلف الشارع بتكاليف تلابسها، ولا يلزم المكلف باحتمالها؛ لأن المقصد الأول من التشريع رفع الضرر عن الناس، وفي التكاليف بما فيه من هذا النوع من المشقة إضرار بالناس، وتكليفهم بما ليس في وسعهم، وقد شرع الله أحكام الرخص عند طروء الأعذار دفعا لهذا النوع من المشقة، فما أباح الفطر في رمضان لمن كان مريضا أو على سفر، وما أباح التيمم عند عدم الماء أو حال المرض، وما أباح المحظورات عند الضرورات أو الحاجات، إلا لدفع هذه المشقات، فلا يصح أن يكلف المكلف بأحكام فيها مشقات قد قصد الشارع دفعها.
فالمشقة التي من هذا النوع إذا كان يجلبها نفس العمل المكلف به، فقد دفعها الله بتشريع الرخص، وإذا كان يجلبها المكلف على نفسه بإرادته، فقد نهاه الله عن ذلك وحرمه عليه، ولهذا نهى الرسول -صلى الله عليه وسلم- عن صوم الوصال، وعن قيام الليل كله، وعن الترهب، وقال:"أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم؛ لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني". وقال لمن نذر أن يصوم قائما في الشمس:"أتم صومك ولا تقم في الشمس". وقال:"خذوا من الأعمال ما تطيقون"، "والقصد القصد تبلغوا"، "هلك المتنطعون"، "إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه"، "إن المنبت لا أرضًا قطع ولا ظهرًا أبقى". وحكم بإثم من ترك الرخص واستمسك بالعزيمة محتملا ما فيها من ضرر، وقال:"ليس من البر الصيام في السفر". وقال:"إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه".