للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

إيمانهم ويقوي عقائدهم حتى يؤدي بهم هذا إلى أن يموتوا على دينهم. وقوله تعالى: {لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} ظاهره التكليف بأن لا يحزن الإنسان على شيء فاته، ولا يفرح بشيء أتاه، وهذا غير مقدور له، لكن حقيقته التكليف بالكف عما يعقب الاسترسال في الحزن من السخط، وما يعقب الاسترسال في الفرح من البطر والزهو.

وهكذا كل ما ورد من أمثال هذه النصوص فهو مؤول بأن التكليف فيه إما ورد على ما يلحق الأمر الطبيعي ويترتب عليه من آثار، أو على ما يسبقه من بواعث ودوافع، وهذه اللواحق والسوابق أمور كسبية للإنسان وفي مقدوره.

ولا يتبادر إلى الذهن من اشتراط أن يكون الفعل مقدورا للمكلف لصحة التكليف به شرعا أن هذا يسلتزم أن لا تكون في الفعل أية مشقة على المكلف؛ لأنه لا منافاة بين كون الفعل مقدورا، وكونه شاقا. وكل ما يكلف به الإنسان لا يخلو من نوع مشقة؛ لأن التكليف هو الإلزام بما فيه كلفة ونوع مشقة.

غير أن المشقة نوعان -النوع الأول: مشقة جرت عادة الناس أن يحتملوها وهي في حدود طاقتهم، ولو داموا على احتمالها لا يلحقهم أذى ولا ضرر لا في نفس ولا في مال ولا في أي شأن من شئونهم، كالمشقات التي يحتملها الناس في المداومة على طرق السعي للرزق من زرع وحرث واتجار وغيرها، والمشقات التي يحتملها الموظفون في أداء واجباتهم، وكل عامل في أداء عمله.

والتكاليف الشرعية لا تخلو عن مشقات من هذا النوع فيها صعوبة، ولكنها محتملة، والمداومة عليها لا تلحق بمن داوم عليها ضررا ولا أذى. والشارع ما قص بالتكاليف هذه المشقات التي تلابسها وإنما قصد بها المصالح المترتبة عليها، وإلزام المكلف أن يحتمل مشقة في حدود طاقته في سبيل ما يترتب له من مصالح؛ كالطبيب الذي يلزم المريض أن يتناول الدواء المر لما يترتب على تناوله من شفائه فهو يحمله مرارته في سبيل السلامة من أمراضه، فالصلاة والزكاة والصيام، ومسائر ما أمر به المكلف وما نهى عنه: في القيام بها نوع مشقة وصعوبة على نفس المكلف ولكنها صعوبة محتملة وفي حدود الطاقة، وهي وسيلة إلى غاية ومصالح لا بد للإنسان منها لاستقامة حياته: والشارع ما أراد إيلام المكلف وتحميله

<<  <   >  >>