وفي عهد الصحابة واجهتهم وقائع وطرأت لهم طوائ لم تواجه المسلمين، ولم تطرأ في عهد الرسول، فاجتهد فيها أهل الاجتهاد منهم وقضوا وأفتوا وشرعوا، وأضافوا إلى المجموعة الأولى عدة أحكام استنبطوها باجتهادهم، فكانت مجموعة الأحكام الفقهية في طورها الثاني مكونة من أحكام الله ورسوله، وفتاوى الصحابة وأقضيتهم. ومصادرها القرآن والسنة. واجتهاد الصحابة -وفي هذين الطورين لم تدون هذه الأحكام ولم تشرع أحكام لوقائع فرضية بل كان التشريع فيهما لما حدث فعلا من الواقع وما وقع من حوادث. ولم تأخذ هذه الأحكام صبغة علمية بل كانت مجرد حلول جزئية لوقائع فعلية، ولم تسم هذه المجموعة علم الفقه ولم يسم رجالها من الصحابة الفقهاء.
وفي عهد التابعين وتابعي التابعين والأئمة المجتهدين، وهو بالتقريب القرنان الهجريان الثاني، والثالث اتسعت الدولة الإسلامية ودخل في الإسلام كثيرون من غير العرب. وواجهت المسلمين طارئ ومشاكل وبحوث ونظريات، وحركة عمرانية وعقلية حملت المجتهدين على السعة في الاجتهاد والتشريع لكثير من الوقائع، وفتحت لهم أبوابا من البحث والنظر، فاتسع ميدان التشريع للأحكام الفقهية وشرعت أحكام كثيرة لوقائع فرضية، وأضيفت إلى المجموعتين السابقتين أحكام كثيرة فكانت مجموعة الأحكام الفقهية في طورها الثالث مكونة من أحكام الله ورسوله، وفتاوى المجتهدين واستنباطهم ومصادرها القرآن والسنة، واجتهاد الصحابة والأئمة المجتهدين. وفي هذا العهد بدئ بتدوين هذه الأحكام مع البدء بتدوين السنة، واصطبغت الأحكام بالصبغة العلمية؛ لأنها ذكرت معها أدلتها وعللها والأصول العامة التي تتفرع عنها. وسمى جالها الفقهاء وسمى العلم بها علم الفقه. ومن أول ما دون فيها فيما وصل إلينا "الموطأ" للإمام مالك بن أنس، فإنه جمع فيه بناء على طلب الخليفة المنصور ما صح عنده من السنة ومن فتاوى الصحابة والتابعين وتابعيهم، فكان حديث وفقه وهو أساس فقه الحجازيين، ثم دون الإمام أبو يوسف صاحب أبي حنيفة عدة كتب في الفقه هي أساس فقه العراقيين، ودون الإمام محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة كتب ظاهر الرواية الستة التي جمعها الحاكم الشهيد في كتابه "الكافي"، وشرحه السرخسي في كتابه "المبسوط" وهي مرجع فقه المذهب الحنفي، وأملى الإمام محمد بن إدريس الشافعي بمصر كتابه "الأم" وهو عماد فقه المذهب الشافعي.