وأمثلة هذا لا تحصى؛ لأن كل نص قانوني إنما ساقه الشارع لحكم خاص، قصد تشريعه به وصاغ ألفاظه وعباراته لتدل دلالة واضحة عليه. فكل نص في أي قانون شرعي أو وضعي له معنى تدل عليه عباراته، وقد يكون له مع هذا معنى يدل عليه بالإشارة أو الدلالة أو الاقتضاء، وربما لا يكن، فلا حاجة إلى ذكر أمثلة مما يدل عليه النص بعبارته، وإنما نقتصر على بعض أمثلة يتبين منها الفرق بين المقصود من السياق أصالة والمقصود منه تبعًا:
قال تعالى:{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} هذا النص تدل صيغته دلالة ظاهرة على معنيين كل منهما مقصود من سياقه، أحدهما أن البيع ليس مثل الربا، وثانيهما أن حكم البيع الإحلال، وحكم الربا التحريم، فهما معنيان مفهومان من عبارة النص، ومقصودان من سياقه؛ ولكن الأول: مقصود من السياق أصالة؛ لأن الآية سيقت للرد على الذين قالوا: إنا البيع مثل الربا. والثاني: مقصود من السياق تبعا؛ لأن نفي المماثلة استتبع بيان حكم كل منهما حتى يؤخذ من اختلاف الحكمين أنهما ليسا مثلين. ولو اقتصر على المعنى المقصود من السياق أصالة. لقال: وليس البيع مثل الربا.
يفهم من عبارة هذا النص ثلاثة معان: إباحة ما طاب من النساء، وتحديد أقصى عدد الزوجات بأربع، وإيجاب الاقتصار على واحدة إذا خيف الجور حال تعدد الزوجات؛ لأن كل هذه المعاني تدل عليها ألفاظ النص دلالة ظاهرة، وكلها مقصودة من سياقه، ولكن المعنى الأول مقصود تبعا، والثاني والثالث مقصودان أصالة؛ لأن الآية سيقت لمناسبة الأوصياء على القصر الذين تحرجوا من قبول الوصاية خوف الجور في أموال اليتامى، فالله سبحانه نبههم١ إلى أن خوف الجور يجب أن يحول أيضا بينكم، وبين تعدد الزوجات إلى غير حد، وبغير قيد، فاقتصروا على اثنتين أو ثلاث أو أربع، وإن خفتم أن لا تعدلوا حين التعدد فاقتصروا على واحدة، فهذا الاقتصار على اثنتين أو ثلاث أو أربع، أو واحدة هو
١ جاء في تفسير البيضاوي في تفسير هذه الآية: أي إن خفتم ألا تعدلوا في يتامى النساء إذا تزوجتم بهن فتزوجوا ما طاب لكم من غيرهن. أ. هـ. مصححة.