للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وجبت جزاء على معصية. ولهذا سميت كفارة، أي ستارة للإثم، وفيها معنى العبادة؛ لأنها تؤدي بما هو عبادة من صوم، أو صدقة، أو تحرير رقبة.

فهذه الأنواع كلها حق خالص لله، وتشريعها لتحقيق مصالح الناس العامة، وليس للمكلف الخيرة فيها، وليس له إسقاطها؛ لأن المكلف لا يملك أن يسقط إلا حق نفسه. ولا أن يسقط صلاة أو صوما أو حجا أو زكاة، أو صدقة واجبة أو ضريبة مفروضة أو عقوبة من هذه العقوبات؛ لأنها ليست حقه.

وأما ما هو حق خالص للمكلف فمثاله: تضمين من أتلف المال بمثله أو قيمته هو حق خالص لصاحب المال إن شاء ضمن وإن شاء ترك. وحبس العين المرهونة حق خالص للمرتهن، واقتضاء الدين حق خالص للدائن. فالشارع أثبت هذه الحقوق لأربابها، وهم لهم الخيرة إن شاءوا استوفوا حقوقهم، وإن شاءوا أسقطوها، ونزلوا عنها؛ لأن لكل مكلف الحق في أن يتصرف في حق نفسه. وهذه ليست من المصالح العامة.

وأما ما اجتمع فيه الحقان وحق الله فيه غالب، فهو حد القذف؛ لأنه من جهة أنه صيانة لأعراض الناس، ومنع من التعادي والتقاتل يحقق مصلحة عامة، فيكون من حق الله؛ ومن جهة أنه دفع للعار عن المحصنة التي قذفت وإعلان لشرفها، وحصانتها يحقق مصلحة خاصة بها فيكون من حق الفرد. ولكن الجهة الأولى أظهر في هذه العقوبة، فلهذا كان حق الله غالبا فيها. فليس للمقذوفة أن تسقط الحد عن قاذفها؛ لأنها لا تملك إسقاط حد غلب حق الله فيه؛ وليس لها أن تقيم الحد بنفسها؛ لأن الحدود التي هي حق خالص لله أو يغلب فيها حق الله لا تقيمها إلا الحكومة. وليس للمجني عليه أن يقيمها بنفسه.

وأما ما اجتمع فيه الحقان، وحق المكلف فيه غالب فهو القصاص من القاتل العامد، فإن القصاص من جهة أن فيه حياة الناس بتأمينهم على أنفسهم يحقق مصلحة عامة، ومن جهة أن فيه شفاء صدور أولياء المقتول، وإطفاء نار غضبهم وحقدهم على القاتل يحقق مصلحة خاصة. ولكن الجهة الثانية غلبت، ولهذا كان حق المكلف غالبا معه، ولهذا جاز لولي المقتول أن يعفو فلا يقتص منه. ولا يقتص من القاتل إلا بناء على طلب ولي المقتول.

ومن هذا يؤخذ أن العقوبات المقدرة في القرآن، وهي الحدود الشرعية الخمسة؛ منها ما هو حق خالص لله، وهي حد الزنا، وحد السرقة، وحد السعي في الأرض فسادًا بالخروج على الجماعة، ومنها ما اجتمع فيه الحقان وحق الله

<<  <   >  >>