وكذلك عني العلماء بجمع أحاديث الأحكام، وترتيبها حسب أبواب الفقه وأعمال المكلفين، بحيث يتيسر للإنسان أن يرجع إلى ما ورد في السنة الصحيحة من أحكام البيع، أو الطلاق أو الزواج أو العقوبات أو غيرها. ويستطيع أن يرجع إلى الآيات والأحاديث التي وردت في موضوع واحد من موضوعات الأحكام؛ وعلى ضوئها يفهم الحكم الشرعي، ومن خير الكتب التي يرجع إليها في هذا "كتاب نيل الأوطار" للإمام الشوكاني.
الرابع: أن يعرف وجوه القياس. وذلك بأن يعرف العلل والحكم التشريعية التي شرعت من أجلها الأحكام، ويعرف المسالك التي مهدها الشارع لمعرفة علل أحكامه، ويكون خبيرًا بوقائع أحوال الناس ومعاملاتهم، حتى يعرف ما تتحقق فيه علة الحكم من الوقائع التي لا نص فيها، ويكون خبيرًا أيضا بمصالح الناس وعرفهم؛ وما يكون ذريعة إلى الخير والشر فيهم، حتى إذا لم يجد في القياس سبيلا إلى معرفة حكم الواقعة، سلك سبيلا أخرى من السبل التي مهدتها الشريعة الإسلامية للوصول إلى استنباط الحكم فيما لا نص فيه.
ومما ينبغي التنبيه إليه أمور ثلاثة:
أحدها: أن الاجتهاد لا يتجزأ، أي أنه لا يتصور أن يكون العالم مجتهدا في أحكام الطلاق وغير مجتهد في أحكام البيع، أو مجتهدا في أحكام العقوبات، وغير مجتهد في أحكام العبادات؛ لأن الاجتهاد -كما يؤخذ مما قدمناه- أهلية وملكة يقتدر بها المجتهد على فهم النصوص، واستثمار الأحكام الشرعية منها، واستنباط الحكم فيما لا نص فيه. فمن توافرت فيه شروط الاجتهاد وتكونت له هذه الملكة لا يتصور أن يقتدر بها في موضوع دون آخر، نعم يتصور أن يكون المرء عالمًا متخصصًا في المدنيات دون العقوبات أو في العقوبات دون المدنيات، ولكن لا يتصور أن يكون قادرًا على الاجتهاد في هذا الموضوع من الأحكام دون هذا؛ ولأن عماد المجتهد في اجتهاده فهم المبادئ العامة وروح التشريع التي بثها الشارع في مختلف أحكامه وبنى عليه تشريعه، وهذه الروح التشريعية والمبادئ العامة لا تخص بابا دون باب من أبواب الأحكام. وفهمها حق فهمها لا يتم إلا بأقصى ما يستطاع من استقراء الأحكام الشرعية وحكمها في مختلف الأبواب. وقد يكون هادي المجتهد في أحكام الزواج مبدأ، أو تعليلًا تقرر في أحكام البيع. فلا يكون