للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

مجتهدًا إلا إذا كان على علم تام بأحكام القرآن، والسنة حتى يصل من مقارنة بعضها ببعض، ومن مبادئها العامة إلى الاستنباط الصحيح.

وثانيها: أن المجتهد مأجور؛ إن أصاب فله أجران: أجر على اجتهاده وأجر على إصابته الصواب، وإن أخطأ فله أجر واحد في اجتهاده؛ لأننا قدمنا أن الله سبحانه ما ترك الناس سدى، بل شرع لكل فعل من أفعال المكلفين حكما، ونصب لكل حكم دليلا يدل عليه. وطلب من أهل النظر في هذه الأدلة أن ينظروا فيها ليهتدوا إلى حكمه. فمن توافرت فيه أهلية النظر فيها؛ واجتهد حتى وصل إلى الحكم الذي أداه إليه اجتهاده، فهو مأجور على هذا الاجتهاد، وواجب عليه أن يعمل في قضائه، وإفتائه بما أداه إليه اجتهاده؛ لأنه حكم الله حسب ظنه الراجح. والظن الراجح كما قدمنا، كاف في وجوب العمل. ولا يجب على غيره أن يقلده في العمل بما وصل إليه اجتهاده؛ لأن قول أي إنسان بعد الرسول المعصوم ليس حجة واجبا اتباعه على أي مسلم، وإنما يجوز للعامة الذي ليست لهم ملكة الاجتهاد، واستثمار الأحكام من نصوصها، أن يتبعوا المجتهدين، ويقلدوهم مصداق قوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} .

وثالثها: إن الاجتهاد لا ينقض بمثله، فلو اجتهد في واقعة وحكم فيها بالحكم الذي أداه إليه اجتهاده، ثم عرضت عليه صورة من هذه الواقعة فأداه اجتهاده إلى حكم آخر، فإنه لا يجوز له نقض حكمه السابق، كما لا يجوز لمجتهد آخر خالفه في اجتهاده أن ينقض حكمه؛ لأنه ليس الاجتهاد الثاني بأرجح من الأول، ولا اجتهاد أحد المجتهدين أحق أن يتبع من اجتهاد الآخر؛ ولأن نقض الاجتهاد بالاجتهاد يؤدي إلى ألا يستقر حكم وإلى ألا تكون للشيء المحكوم به قوة. وفي هذا مشقة وحرد، وقد ورد أن عمر بن الخطاب قضى في حادثة بقضاء؛ ثم تغير اجتهاده فلم ينقض ما قضى به أولا، بل قضى في مثل هذه الحادثة بالحكم الآخر الذي أداه إليه اجتهاده الثاني وقال: ذلك على ما قضينا وهذا على ما نقضي. وقد قضى أبو بكر في مسائل وخالفه بعده عمر فيها، ولم ينقض حكمه. وعلى هذا المعنى ينبغي أن يفهم قول عمر بن الخطاب في عهده لأبي موسى الأشعري حين ولاه القضاء: "لا يمنعك قضاء قضيته اليوم فراجعت فيه نفسك، وهديت فيه لرشدك أن ترجع إلى الحق، فإن مراجعة الحق خير من التمادي في الباطل".

<<  <   >  >>