المحظورات عند الضرورات، وأبيح ترك الفرض والواجب إذا كان في أداء أحدهما حرج، واعتبر الإكراه، والمرض، والسفر، والخطأ، والنسيان، والجهل من الأعذار التي تقتضي التخفيف.
والرابع: مسايرة التشريع مصالح الناس: وبرهان هذا أن الشارع علل كثيرا من أحكامه بمصالح الناس، ودل بشواهد عدة على أن المقصود من تشريع الأحكام تحقيق مصالح الناس، وقرر أن الأحكام تدور مع عللها وجودا وعدما، ولهذا شرع الله بعض الأحكام ثم أبطلها ونسخها لما اقتضت المصلحة تعديلها، فقد فرض الاتجاه في الصلاة إلى بيت القدس، ثم نسخه، وفرض الاتجاه في الصلاة إلى الكعبة، وفرض عدة المتوفى عنها زوجها حولًا، ثم نسخها، وفرضها أربعة أشهر وعشرة أيام. والرسول نهى عن ادخار لحوم الأضاحي لأجل الوفود التي كانت بالمدينة أيام العيد، وأباح ادخارها لما رحلت تلك الوفود، ونهى عن زيارة القبور ثم أباحها، فهذا النسخ، والتبديل والتعديل في وقت التشريع برهان على أن التشريع الإسلامي ساير مصالح الناس، ولهذه المسايرة نفسها راعى الشارع عرف الناس وقت التشريع ما دام لا يهدم أصلا من أصول الدين، فراعى الكفاءة في الزواج وراعى العصبية في الإرث والولاية، وفرض الدية على العاقلة؛ لأن من مصالح الناس أن تراعى عاداتهم وما جرى به عرفهم ما دام لا يعارض أصلا دينيا ولا يجلب ضررا.
ما خلفه هذا العهد من آثار تشريعية:
المصدر التشريعي الأول وهو الوحي الإلهي صدرت عنه آيات الأحكام في القرآن، والمصدر التشريعي الثاني وهو اجتهاد الرسول صدرت عنه أحاديث الأحكام، ومجموعة نصوص هذه الآيات والأحاديث هي ما خلفه هذا العهد من آثار تشريعية، وهي القانون الأساسي للمسلمين، وهي أساس التشريع ومرجع كل مجتهد إسلامي في أي عصر من العصور، فإذا وقعت واقعة ودل على حكمها نص قاطع من نصوص هذه المجموعة، فلا مجال فيها لاجتهاد أي مجتهد في أي عصر، وإذا لم يدل على حكمها نص قاطع من نصوصها كانت مجالا للاجتهاد، ولكن على أن يسير المجتهد في اجتهاده على ضوء هذه المجموعة بأن يقيس على ما ورد فيها، أو يهتدي بروحها ومعقولها ومبادئها العامة، وليس له أن يخالف باجتهاده نصا من نصوصها، أو يخرج عن مبدإ من مبادئها.