وأما المصالح التي اقتضتها البيئات والطوارئ بعد انقطاع الوحي، ولم يشرع الشارع أحكاما لتحقيقها، ولم يقم دليل منه على اعتبارها أو إلغائا، فهذه تسمى المناسب المرسل أو بعبارة أخرى المصلحة المرسلة، مثل المصلحة التي اقتضت أن الزواج الذي لا يثبت بوثيقة رسمية لا تسمع الدعوى به عند الإنكار، ومثل المصلحة التي اقتضت أن عقد البيع الذي لا يسجل لا ينقل الملكية، فهذه كلها مصالح لم يشرع الشارع أحكاما لها، ولم يدل دليل منه على اعتبارها أو إلغائها، فهي مصالح مرسلة.
٢- أدلة من يحتجون بها:
ذهب جمهور علماء المسلمين إلى أن المصلحة المرسلة حجة شرعية يبنى عليها تشريع الأحكام، وأن الواقعة التي لا حكم فيها بنص أو إجماع، وقياس أو استحسان، يشرع فيها الحكم الذي تقتضيه المصلحة المطلقة، ولا يتوقف تشريع الحكم بناء على هذه المصلحة على وجود شاهد من الشرع باعتبارها.
ودليلهم على هذا أمران:
أولهما: أن مصالح الناس تتجدد ولا تتناهى، فلو لم تشرع الأحكام لما يتجدد من مصالح الناس، ولما يقتضيه تطورهم، واقتصر التشريع على المصالح التي اعتبرها الشارع فقط، لعطلت كثير من مصالح الناس في مختلف الأزمنة والأمكنة، ووقف التشريع عن مسايرة تطورات الناس ومصالحهم، وهذا لا يتفق وما قصد بالتشريع من تحقيق مصالح الناس.
وثانيهما: أن من استقرأ تشريع الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين؛ يتبين أنهم شرعوا أحكاما كثيرة لتحقيق مطلق المصلحة، لا لقيام شاهد باعتبارها. فأبو بكر جمع الصحف المفرقة التي كانت مدونا فيها القرآن، وحارب مانعي الزكاة، واستخلف عمر بن الخطاب، وعمر أمضى الطلاق ثلاثًا بكلمة واحدة، ومنع سهم المؤلفة قلوبهم من الصدقات، ووضع الخراج ودون الدواوين، واتخذ السجون، ووقف تنفيذ حد السرقة في عام المجاعة، وعثمان جمع المسلمين على مصحف واحد ونشره وحرق ما عداه، وورث زوجة من طلق زوجته للفرار من إرثها، وعلى حرق الغلاة من الشيعة الروافض، والحنفية حجروا على المفتي الماجن والطبيب الجاهل والمكاري المفلس، والمالكية أباحوا حبس المتهم وتعزيره توصلا إلى إقراره، والشافعية أوجبوا القصاص من الجماعة إذا قتلوا الواحد، وجميع هذه