ولهذا قال الحكماء أن الإنسان مدني بالطبع أي هو محتاج إلى مدينة فيها خلق كثير لتتم له السعادة الإنسانية فكل بالطبع وبالضرورة يحتاج إلى غيره فهو لذلك مضطر إلى مصافاة الناس ومعاشرتهم العشرة الجميلة ومحبتهم المحبة الصادقة لأنهم يكملون ذاته ويتممون إنسانيته وهو أيا يفعل بهم مثل ذلك. فإذا كان كذلك بالطبع وبالضرورة فكيف يؤثر الإنسان العاقل العارف بنفسه التفرد والتخلي ولا يتعاطى ما يرى الفضيلة في غيره. فإذا القوم الذين رأوا الفضيلة في الزهد وترك مخالطة الناس وتفردوا عنهم إما بملازمة المغارات في الجبال وأما ببناء الصوامع في المفاوز. وأما بالسياحة في البلدان لا يحصل لهم شيء من الفضائل الإنسانية التي عددنها. ذلك أن من لم يخالط الناس ولم يساكنهم في المدن لا تظهر فيه العفة ولا النجدة ولا السخاء ولا العدالة بل تصير قواه وملكاته التي ركبت فيه باطلة لأنها لا تتوجه لا إلى خير ولا إلى شر فإذا بطلت ولم نظهر أفعالها الخاصة بها صاروا بمنزلة الجمادات والموتى من الناس ولذلك يظنون ويظن بهم أنهم أعفاء وليسوا بإعفاء وأنهم عدول وليسوا بعدول وكذلك في سائر الفضائل اعني أنه إذا لم يظهر منهم أضداد هذه التي هي شرور. ظن بهم الناس أنهم أفاضل وليست الفضائل إعداما بل هي أفعال وأعمال تظهر عند مشاركة الناس ومساكنتهم وفي المعاملات وضروب الإجتماعات. ونحن إنما نعلم ونتعلم الفضائل الإنسانية التي نساكن بها الناس ونخالطهم ونصبر على أذاهم لنصل منها وبها إلى سعادات أخر إذا صرنا إلى حال أخرى. وتلك الحال غير موجودة لنا الآن.